أنه لا يُلائم سائر طُرُقه، فإِنه يَدُلُّ على أنه خاطبه بعدما فَرَغَ عنها. وكذلك لا يُلائِمُ قوله:«لم أكن» بالنفي في الماضي. ولعلَّ قَيْسًا لمَّا أراد أن يَرْجِعَ إلى بيته بعد الفراغ عنها، استوقفه ليعلِّمه المسألة، فقال:«مهلا».
ثم إن هذا اللفظ أخرجه مالك رحمه الله تعالى في صلاتهم قبل الفجر، والترمذي فيما بعدها، ويُتَوَهَّمُ منه أنه اضْطِرَابٌ. فعند مالك عن أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن قال:«سَمِعَ قومٌ الإِقامةَ فقاموا يُصَلُّون، فخرج إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فقال: أصلاتان معًا أصلاتان معًا» وذلك في صلاة الصبح في الركعتين اللتين قبل الصبح اهـ.
ولعلَّك عَلِمْتَ من هذه الأحاديث: أن النهيَ لا يختصُّ بما بعد الإقامة، بل يَعُمُّه وما بعد الصلاة أيضًا، وإذن لا يكون المثار ما قالوه، بل يجوز أن يكونَ المناط ما علَّل به الطحاويُّ: وأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بهذا النهيِ أن يُصَلِّي غير الفريضة في الموطن الذي صُلِّيَتْ فيه الفريضة، فيكون مصلِّيها قد وَصَلَها بتطوُّعٍ، فيكون النهيُ من أجل ذلك، لا لمن يُصَلِّي في آخر المسجد، ثم يَتَنَحَّى من ذلك المكان، فَيُخَالط الصفوف ويَدْخُل في الفريضة، ويَدُلُّ عليه ما رواه الطحاويُّ عن محمد بن عبد الرحمن:«أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلّم مرَّ بعبد الله بن مالك بن بُحَيْنَة وهو مُنْتَصِبٌ يُصَلِّي ثَمَّةَ بين يدي نداء الصبح، فقال: لا تجعلوا هذه الصلاة، كصلاة قبل الظهر وبعدها، واجعلوا بينها فصْلا». اهـ.
ولعلَّ الطحاويَّ حَمَلَه على عدم الفصل مكانًا، إلا أنه يَرِدُ عليه: أن لا يكون الفصلُ مطلوبًا في الظهر، ولا يقول به أحدٌ، وتفسيرُه عندي: أن سنةَ الظهر قد تُؤدَّى فى المسجد بخلاف سنة الفجر، كما يَظْهَرُ من حديث البخاري. ولعلَّه تعليمٌ لأمرين: جواز سنة الفجر، فإنه ليس بعدها، والأمر الثاني: الفصل. قال الطحاويُّ: فبيَّن هذا الحديثُ أن الذي كَرِهَهُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّم لابن بُحَيْنَة: هو وَصْلُه إياها بالفريضة في مكانٍ واحدٍ لم يَفْصِلْ بينهما بشيءٍ، فتحصَّل أن المناطَ هو الفصلُ، لا ما قالوه.
ثم يُعْلَمُ من الأحاديث: أن الفصلَ مطلوبٌ في المَكْتُوبات كلِّها وإن كان في سنة الفجر آكَدَ وأبلغَ، فعنده عن أبي هُرَيْرة رضي الله تعالى عنه مرفوعًا قال:«لا تكاثروا الصلاة المكتوبة بمثلها من التسبيح في مقامٍ واحدٍ». وعند مسلم في الجمعة، عن عمر بن عطاء، في قصة السائب مع معاوية. «فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: لا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ، إذا صلَّيت الجمعة، فلا تَصِلْها بصلاةً حتى تتكلَّمَ أو تَخْرُجَ، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم أمرنا بذلك أن لا نُوصِلَ بصلاةٍ حتى نتكلَّمَ أو نَخْرُجَ». اهـ. ولذا أقول: إن الفصلَ عندي عامٌّ سواء كان بالمكان أو بالقول، وإن كان عند الطحاويِّ بالمكان فقط، وأنتَ تَعْلَمُ أن العبرةَ بعموم اللفظ لا لخصوص المَوْرِد، فالحديث وإن وَرَدَ في الجمعة، لكنه يَعُمُّ في سنة الفجر أيضًا. وعند النَّسائي:«عليكم بهذه الصلاة في البيوت»، ولم يَثْبُت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أداء السنن في المسجد إلا مرةً أو مرتين.
فإن قلتَ: إن تصديره بقوله: «إذا أُقِيَمت الصلاة» يَدُلُّ على أن المناط: هو كونه مُصَلِّيًا بعد الإقامة، كما زَعَمَه الشافعية. قلتُ: نعم، وله أيضًا دَخْلٌ، إلا أنا لمَّا رأينا الإنكار قُبَيْل الإقامة وبعدها وبعد الفراغ، عَلِمْنَا أن الدعامةَ هو عدم الفصل.