رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفريضة في قومه، وتخالفه ألفاظ الأحاديث جملة. فإن الرواة كافة يُصَرِّحُون بأن مُعَاذًا كان يصلِّي بهم عينَ ما كان يصلِّي خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولا يقول واحدٌ منهم: إنه كان يُصَلِّي خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلّم نافلةً؛ بل كلهم يقول: إنه كان يصلِّي العشاء خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ويُصَلِّي بهم أيضًا تلك.
وهذا القصور في عبارات المتأخِّرين. والقدماء منا لم يقولوا إلا بالإعادة، ولم يفهم واحدٌ منهم أنه كان ينوي النفل، بل في الكُتُب الأربعة لمحمد رحمه الله تعالى لفظ الإعادة، وهي اسم لتكرار عين الصلاة، فيُصَلِّي العشاء ثم يصلِّيها ثانيًا بذلك الاسم، ولا ينوي النفل. وبه صَرَّح الطحاويُّ في موضعين، فنصُّ الطحاويِّ في واحدٍ منهما: فلا بأس أن يفعل فيها ما ذُكِرَ، ثم من صلاته إياها مع الإمام على أنها نافلة له غير المغرب ... الخ. وفي موضعٍ آخر وممن قال بأنه لا يُعَاد من الصلاة إلا الظهر والعشاء الآخرة: أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد رحمهم الله تعالى اهـ. فصَرَّح أن الإعادة مُعْتَبَرَةٌ عندنا أيضًا، كما هو عند سائر الأئمة، إلا أنه في الصلاتين فقط.
ومعنى قوله على أنها نافلة: أي أنه لا ينوي النفل، ولكنه تَقَعُ عنه نافلة إذ سَقَطَ فرضه عن ذمته بأُولى صلاتيه إن كان نَوَى بها إسقاط الفريضة، وحينئذٍ اتَّضَحَ أن المذهب أنه يصلِّي صلاةً واحدةً مرتين، بمعنى أنها إن كانت عشاءً يُعِيدُها عشاءً، ولا ينوي غير العشاء، وإن ظهرًا فظهرًا، وهكذا. نعم إن نَوَى إسقاط الفريضة بأُولى صلاتيه لا تقع الأخرى إلا نافلةً، وذلك لأن ذمته قد فَرَغَت بالأُولى، فلا تقع الثانية إلاّ نفلا، ولعلك فَهِمْتَ الآن الفرق بين قولنا: تنقَّل بكذا أو صلّى نافلةً، وبين قولنا: صلَّى على أنها نافلة. فإن الأول يَدُلُّ على نية النفل، والثاني على أنه لم ينو إلاّ عينَ تلك الصلاة، ثم وقعت نفلا بدون نيةٍ منه.
فإن قلتَ: إنك إذا نَوَيْتَ العشاء في الموضعين، فكيف تقع الثانية نافلة؟ قلتُ: كصلاة الصبيان، فإنهم لا يَنْوُون صلواتهم إلاّ بأسمائها كالفجر والظهر وغيرهما، ثم لا تقع عنهم إلاّ نافلةً، لا أنهم يَنْوُون نفلا ويُصَلُّون متنفِّلين من أول الأمر. فهكذا حال من أسقط الفريضة عن ذمته مرةً، فإنه أيضًا ينوي تلك الصلاة، ولا تقع عنه إلاّ نافلةً (١)، وهو الذي عَنَاه الطحاويُّ بقوله: على أنها نافلة.
ثم إن الطحاويَّ لم يَذْكُر بين الأئمة خلافًا في نفس الإعادة، فعُلِمَ أن الإعادة متفقٌ عليها إجماعًا. وإنما الخلافُ في إعادة الكلِّ أو البعض منها، فذَهَبَ الشافعيةُ إلى أنه يُعِيدُ الصلوات الخمس، وذهب الحنفية رحمهم الله تعالى إلى أنه لا يُعِيدُ إِلاّ الظهر والعشاء. فلا ينبغي إقامة الخلاف في نفس الإعادة بعد هذا الصَّدْع والإعلان. ومن ههنا تبيَّن أن من قال: إنه كان يُصَلِّي
(١) قلت: سمعت من شيخي جزئية تنفعك ههنا أيضًا وهي: أن الأمير لو أمر بالصيام في أيام الوباء، يجب عليهم الصيام، كذا ذكره الحموي في "الأشباه"، وليس معناها إلا أن فعله واجبٌ، ثم يقع نفلًا لا غير، فافهم.