للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

في قومه تَطَوُّعًا، فقد أخذ بالثمرة، ثم وقع الناس في المغالطة من تعبيره. مع أن الحق ما حقَّقناه، وخلافه خلاف الصواب.

وإذا تقرَّر هذا، لم يبقَ بيننا وبين الشافعية خلاف في صلاة مُعَاذ رضي الله عنه، إلا أنهم قالوا: إن أُولى صلاتيه كانت فريضةً والأخرى نافلةً، وقلنا بعكسه. وحينئذٍ اعْتَدَلْنَا ككفتي الميزان، لا مَزِيَّة لهم علينا، لأن ما ادَّعُوه من باب الرجم بالغيب، فمن أين عَلِمُوا أن صلاة مُعَاذ رضي الله عنه خلف النبيّ صلى الله عليه وسلّم كانت هي الفريضة ولا يُعْلَمُ حال النية إلاّ من قِبَلِهِ، وما لم يبيِّن هو بنفسه، فجَعَلَ أُولى صلاتيه فريضة تحكم (١)، لِمَ لا يجوز أن تكون تلك نافلة، والأخرى بعكس ما قلتم؟

فإن قلتَ: إن مُعَاذًا رضي الله إذا نَوَى العشاء أول مرة على ما قلتم، وقع عن فريضة لا مَحَالة. قلتُ: كلاّ، فإنك قد عَلِمْتَ في مُفْتَتَحِ الكلامِ أن الفريضةَ تَحْتَاجُ إلى نيةٍ زائدةٍ على أصل الصلاة، وهي نيةُ وصف الفرضية، فإنه يتضمَّن أمرين: الصلاةَ، وذلك الوصف. فإذا أَطْلَق في النية ولم ينوِ هذا الوصف، لا تقع إلاّ نافلةً، ولعلّ صلاة مُعَاذ رضي الله عنه مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم كانت لإحراز فضيلة جماعة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وصلاته في قومه كانت لإسقاطها عن ذمته، بل هو الظاهر على أصلنا. فإنه كان إمام قومه، فلا بُدَّ أن ينوي صلاةً يَصِحُّ اقتداؤهم به، وذلك على ما قلنا. ولسنا ندَّعي أنه كان يَفْعَلُ كذلك؛ بل نقول: إنا نتوازن في الفِعَال حذو المثقال، ولا نرضى بِخطَّة عَسْفٍ.

على أنك قد عَلِمْتَ فيما سَلَفَ؛ أن الصلاةَ حقيقةٌ واحدةٌ تَشْتَرِكُ بين الفريضة والتطوُّع، وإنما تختلف من جهة لُحُوق الأمر وعدمه، فإذا لَحِقَ بها الأمر صارت فريضةً، وإلاّ بقيت نافلةً، فلا فرق بينهما إلاّ بلُحُوق الأمر وعدم لُحُوقه، وهو من الخارج لا من نفس حقيقتها، وعلى هذا، ففي الموضعين هي العشاء لا غير، وإنما الفرق بينهما بكون إحدى العشاءين مأمورًا بها، والآخرى غير مأمورٍ بها، وذلك لا يوجب سَلْب اسم العشاء عمَّا لم يُؤْمَر بها. أَلا ترى أن صلاة الصبيان لا تُسَمَّى إلاّ باسم العشاء مع عدم كونهم مأمورين بها؟

فَعُلِمَ أنه لا فرق في إطلاق الاسم على ما هو مأمورٌ بها، وعلى ما ليس بمأمورٍ بها، فهي العشاء في كلا الموضعين، نعم التي نَوَى بها براءة ذمته هي الفريضة لكونها مأمورًا بها بخلاف الأخرى، وذلك إليه، أسقط فريضته من أي صلاتيه شاء، وإنما يَصْعُب فَهْمُهُ على الذهن الذي ارْتَاضَ بإطلاق العشاء على الفريضة فقط، ولم يتَّفِقْ له أن يُعِيدَ العشاء على أنها نافلة كما في هذا الزمان.

وأصْرَحُ ما احتجَّ به الشافعيةُ رحمهم الله تعالى ما رواه الشافعيُّ عن جابر في هذا الحديث


(١) ونعم ما قال ابن العربي في "شرح الترمذي": إنه ليس في حديث مُعَاذ رضي الله عنه كيفية نية مُعَاذ رضي الله عنه، وقولُ جابر رضي الله عنه: "هي له تطوع ولهم فريضة"، إخبارُ غائب عن غير شيء، ومَنْ لجابر رضي الله عنه بما كان ينويه مُعَاذ رضي الله عنه. اهـ. وسيجيء ما فيه عن الطحاوي إن شاء الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>