قال الشيخ رحمه الله: والذي ذَكره ابن حَزم يَدُلُّ على خلاف ما رامه، وتفصيله على ما فَهِمت: أن الأذهان إنما تتوجه إلى بيان القُدوَة من السلف في أمر يَشتَدُّ فيه الخلاف، فيذكرون له أحاديثَ وأسانيدَ على نحو استدلالٍ، ومر اختلافهم، وبحثهم، وردِّ بعضهم على بعضٍ، واستدلالهم لأنفسهم، وذكر جماعات ممن وَافَقَهم، يَظهَرُ مذاهب الصحابة رضي الله عنهم لمن بَعدهم، أما الذي لم يَفْشُ فيه خلافٌ بين السلف، وكان أمره عدهم كالمسلمات، فلا يكون لهم فيه عنايةٌ بذكر استدلال ورَد استدلال، فإنه لا يحتاج عندهم إلى البحث والفَحْص، فَيَسكتون عنه، لأن من حُسن إسلام المرء تَركه ما لا يعنيه، وفيه يتغير النقل عند الخلف من الكاتب، لا يقوم إلى الصَّلاة إِلَّا اسْتَن ثم رد على موضعه. فلو كان هناك أحد مثل ابن حزم وادّعى أنّ السنة أن يكون السواك موضع القلم. فمطالبة النقول في أمثال ذلك ظلم، بل قلة الأسماء في خلافه يَدُل على تفرُّد هؤلاء، وَيعُود هذا النقل وَبَالًا على من يُنَوِّه بذكر أسمائهم، ويُطَالب من خالفه بذكر من كان خالفهم - ألَا تَرَى أن الخلافَ إذا لم يتفاقم عندهم، فأي داعية لهم بالبحث والفحص والإثبات والرد؟ وأنا أوضح لك بمثالِ: فقد رَوَى زيد بن خالد الجُهَني بإسنادٍ صحيحٍ عند الترمذي مرفوعًا: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواكِ عند كل صلاة" ... الحديث، ثم كان زيد بن خالد يشهدُ الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه موضع القلم، وتمسك بأن زيدًا يروي الحديث، ثم عَمِلَ به كما سَمِعتَ فدل على سنية وضع السوَاك على الأذن، ثم يُبَالِغ فيه، ويقول: لم نجد في ذلك خلافا عن أحدٍ من الصحابة، فكان ذلك نوعًا من الإجماع. وحينئذٍ لو أراد أحدٌ أن يَرُد عليه، ويَصْرفَ أوقاته في أن يخرج أسماء الصحابة رضي الله عنهم الذين خَالَفوه ولم يضعوا مساوكهم على آذانهم، فلا أراه إلَّا أنه يُضِيع وقته ويُتْعِبُ نفسه، ثم يَرْجِع كليلًا، وذلك لأن نفس نقل الفعل عن زيد خاصة دليل على تفرُّده في ذلك وخلافه إياهم، فالنقل فيه إنما يَهُم ممن خالفه، ومطالبة النقل ممن كان عملهم بخلاف ذلك ليس إلَّا تحامُلًا وجَورًا، وهذا الذي قد فَهِمَه الإمام الترمذي، فقال بعد سَرْد الحديث المذكور: وقد ذهب بعضُ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الحديث منهم: جابر بن عبد الله، وأُسَيد بن حُضَير، وأبو هريرة وغيرهم. فانظر الفرق بين الإمام وبين ابن حَزْم حيث جَعَلَ الإمام النقلَ عن أربع من الصحابة رضي الله عنهم دليلًا على غاية القلة، فإن النقلَ فيما تَعُم به البَلْوَى ينبغي أن يكونَ من أكثر كثير، وإذ ليس إلَّا عن هؤلاء الأربع، فدل على شذوذهم وتفرُّدهم عن الجماهير. وأما ابن حَزم، فقد جَعَلَه دليلًا على الإجماع. قلتُ: إن كان الإجماع يَثْبُتُ من سورة التعبير، والغِلْظَة في الكلام، والتضييق على الأنام، فلنا أن نقول: إنه لم يُثْبِت ذلك إلا أربعة من الصحابة رضي الله عنهم، فدَلَّ على من اختار القُعُودَ خلف القاعد، فقد خَالَف عمل الجمهور. ومن ادعى، فليأتنا باسمٍ خامسٍ أو سادسٍ، فإن كنتَ ذُقْتَ وأَدْرَكْتَ هذه الدقيقة، فهذا الذي عراهم في مسألة ترك رفع اليدين، وأن ابن عمر رضي الله عنه إنما أَرَادَ في حديثه بإثبات الرفع في الموضعين: الردَّ على من كان تركوه. فإن الإثباتَ والاحتجاجَ واللِّزَامَ واللَّجَاجَ لا يكون إلَّا من مُجَاحِدٍ هناك، فدلَّ على كثرة الجاحدين والمنازعين معه. وإنما قلَّ النقل عن السلف لكون الأمر عندهم على السواء، فلما دار البحثُ وظهر الخلافُ، احتاجوا إلى إحياء ما كان عندهم من السنة. =