للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ساجدًا ... الخ، عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه مرفوعًا: «إذا جِئْتُم إلى الصلاة ونحن سجودٌ فاسجدوا ولا تَعُدُّوها شيئًا ... » الخ (١).

ثم ليمعن النظر أنه ما الفرق بين القُعُود عن القيام، وبين القُعُود للتشهُّد؟ فإن قلتُ: إنه بوضع اليدين على السُّرَّة في الأول، وعلى الفخذين في الثاني. قلتُ: هو مسألةٌ اجتهاديةٌ اختارها أبو حنيفة رحمه الله تعالى، ولا تصريحَ لها في الحديث مع أنه يترشَّح من بعض عبارات فقهائنا أنه لا فَرْق بينهما، وحينئذٍ يَلْتَبِسُ الأول والثاني، ولا يتميَّز أحدهما عن الآخر أصلا. وعلى هذا يُمْكِن أن يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في القَعْدَة للتشهُّد. وهم فَهِمُوا أنه في القَعْدَة بدل القيام، فَقَامُوا.

وأنت تعلم أنه لا سبيلَ حينئذٍ إلى علمه إلا بالتعليم، فأشار إليهم أن اجلسوا، ليَعْلَمُوا أنه في القَعْدَة للتشهُّد، لا لأن فرض القيام سَقَطَ عنهم بالاقتداء. ولا يُقَال يمكن أن يكون سقوطُ القيام عن ذمَّة المقتدي كسقوط فرض القراءة عندكم، لأنا نقول: كلا، فإن القراءةَ خلف القارىء مُنَازَعةٌ، والقيامَ خلف القائم مُوَافَقةٌ. والوجه: أن القراءةَ يتحمَّلها الإمام عن المقتدي، وتُحْتَسَبُ قراءتُه عن قراءتِه، بخلاف الأفعال من القيام والقعود وسائر الأذكار فإن الإمام لا يتحمَّلها عن المقتدي، وكلٌّ فيها أميرُ نفسه، فلا تتأدّى إلا بفعله ومن ههنا تبيَّن وجه التفصِّي عن إشارته بالقُعُود أيضًا (٢).


(١) يقول العبدُ الضعيفُ: وكلا الحديثين حَمَلَهما المحدِّثُون على غير ما حَمَلَهما عليه الشيخ رحمه الله تعالى، ولا بأس. فإن العِبْرَة بصُلُوح اللفظ، فيمكن أن يجري فيه الشرحان لا سِيَّما إذا اعْتَضَد شرحُ الشيخ رحمه الله تعالى بما عند أبي داود من سنة مُعَاذ رضي الله عنه. فلعلَّ ما في الترمذي عن مُعَاذ أيضًا ناظر إليه، ويمكن أن يكون ما عند أبي داود والترمذي إشارة إلى ما أخرجه عبد الرزاق في مصنَّفه مرسلًا، ولعلَّه عن عطاء: "أن الناس كانوا يَأْتَمُّون بالإمام وهو في السجود مثلًا، فلم يكونوا يَسْجُدُون، لأنه إذا فَاتَه الركوع لا يجزئهم السجود عن الركعة، فكانوا يستمرُّون على القيام، حتى كان الإمام يُدْرِكهم في القيام.
فلعل هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لمَّا دَخَلُوا المَشرُبة، ووجدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا اقتدوا به ولم يَقْعُدُوا معه، بل قاموا كذلك منتظرين أن يُدْرِكَهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في القعود بدل القيام، يعني يقعد قَعْدَة القيام، فعلَّمهم أنه ليس من سنة الصلاة، بل إذا صلى الإمامُ قاعدًا، فليصل معه كذلك، وليُدْرِكْهُ معه، ويصنع كما يَصْنَعُ الإِمامُ، حتى إذا أدركه في القعود فليَقعد، وإذا أدركه في القيام فَليَقُم ولا يختلف عليه، ولذا أشار إليهم: أن اجلسوا ولا تنتظروا قائمين. ثم إن ههنا أثرًا عن عطاء مُرْسلًا نَقَلَه الحافظ رحمه الله تعالى: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما صَليتم إلَّا قعودًا" -أو كما قال- وقد كان الشيخ أجاب عنه أيضًا، غير أني لم أنْتَهِز فرصةً لتفصيله.
(٢) واعلم أن ابن حَزْم مرَّ على تلك المسألة، وبَالَغ فيها حتَّى جَعَل يدَّعي الإجماع، وشَدَّد في الكلام على من خالَفَه، وزَعَم أن المُغِيرَةَ بن مِقْسَم صاحبَ النَّخَعِيّ هو أول من أَبْطَل تلك المسألة من هذه الأمة، وأخَذَ عنه حمَّاد، ثم تعلَّمه أبو حنيفة رحمه الله تعالى فلما رأيته يَرْفَعُ عَقِيرَتَه بالإجماع ارتعدت من الفَرَق، وما كنتُ أجدُ منه مَلْجَأً أَلْجَأُ إليه حتَّى تَذَكَّرْتُ لفظًا من شيخي، ولكن ما ألقيت له بالًا حتى رَزَقَنِي اللهُ بعض الممارسة، فَوَجَدْتُ إن كان والله لعلمًا. =

<<  <  ج: ص:  >  >>