الاقتداء بخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وهو الذي فَعَلُوه في واقعة السقوط.
وحينئذٍ مخاطبة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم إياهم بهذا الحديث لا يتتناول إلا الصلوات النافلة التي عَلِمَ الدخول فيها من أحوالهم، فهو إذن في حقِّ الصلاة التي لا يُدْعَى لها الناس، وهي النافلة، ولا رَيْبَ أنه يتحمَّل فيها القُعُود من القدرة على القيام. وفي فِقْهِنَا أيضًا: أن الإمام إن صلَّى التراويح قاعدًا، فللقوم أن يَقْعُدُوا أيضًا تحصيلا للمشاكلة. فمعنى قوله:«وإذا صلَّى جالسًا، فصلُّوا جلوسًا»، أي: في الصلاة التي عَرِفْتُ من عادتكم الاقتداء فيها. نعم، إذا غَفَلَ عن عادتهم تلك في الخارج، سَرَى إلى الوهم أنه عامٌّ في أنواع الصلوات كلِّها.
وأمَّا وَجْهُ التفصِّي عن إشارته، فَيَنْكَشِفُ بعد المراجعة إلى ما أَخْرَجَه أبو داود في الأذان، في حديثٍ طويلٍ من أحوال الصلاة، وفيه قال ابن أبي ليلى: وحدَّثنا أصحابنا قال: «كان الرجل إذا جاء يسأل، فيُخْبِرُ بما سَبَقَ من صلاته، وأنهم قَامُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من بين قائمٍ وراكعٍ وقاعدٍ ومصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ... حتى جاء مُعاذ رضي الله عنه، قال: فقال معاذ: لا أراه على حالٍ إلا كُنْتُ عليه، قال: فقال: إن مُعَاذًا قد سَنَّ لكم سنةً، كذلك فافعلوا». اهـ. مختصرًا بدون تغيير في اللفظ.
وله مُتَابِعٌ عند الطبراني، وفي إسناده عُبَيْدُ الله بن زَحْر، ورأيُ البخاري رحمه الله تعالى حسنٌ في حقِّه. ثم وَجَدْتُ له مُتَابِعَيْن آخرين أيضًا، وظاهره: أن الناس كانوا يَدْخُلُون في الجماعات، فَيُصَلُّون أولا لأنفسهم ما فَاتَهم من صلاة إمامهم، حتى إذا قَضَوْه اتبعوه فيما بقي، واشتركوا معه في الأفعال حتى جاء مُعَاذ رضي الله عنه، فدخل أولا فيما كان الإِمامُ يصلِّيه، ثم اشتغل بأداء ما فاته من صلاته كما هو شاكلة القضاء اليوم. وأنت تَعْلَمُ أنهم لا بُدَّ لهم في هذه الصورة أن يَخْتَلِفُوا على إمامهم، فيكون أحدهم قاعدًا مع قيام إمامه، وقائمًا مع قعود إمامه، وهو الذي يقوله الراوي «من بين قائمٍ وراكعٍ وقاعدٍ» ... الخ، فيُشِيرُ إلى هذه الاختلافات على إمامهم.
فلعلَّ هؤلاء الذين دَخَلُوا في صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في مَشْرُبَتِه، واقتدوا به عَمِلُوا بهذه السنة، وقد كانت نُسِخَت، فدلَّهم على أنه يجب مع الإِمام ائتمامه، لا الاختلاف عليه، فعليكم أن تَعْمَلُوا بسنة مُعَاذ رضي الله عنه، وهو: القضاء فيما بَعْدُ لئلا يُوجب الاختلاف على الإِمام، فأشار إليهم بالجلوس لذلك. وعليه فليُحْمَل قوله:«وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا»، أي لا تُشْغِلُوا أنفسكم بقضاء ما فات أولا، ليلزم عليكم القيام عند جلوسه، والجلوس عند قيامه، ولكن صَلُّوا أولا بصلاة الإِمام فصَلُّوا جلوسًا إذا صلَّى جالسًا، وكذا في القيام.
وإليه يشير ما عند الترمذي في باب ما يذكر في الرجل يُدْرِكُ الإِمامَ ساجدًا، كيف يصنع عن مُعَاذ رضي الله عنه مرفوعًا:«إذا أتى أحدُكم الصلاةَ والإِمامُ على حالٍ، فليَصْنَعْ كما يَصْنَعُ الإِمامُ». اهـ. يريد أن المسبوقَ ينبغي له أن يَتْبَع إمامَه في الأول، ولا يَشْتَغِلَ بقضاء أول صلاته، وليَصْنَعْ كما يَصْنَعُ إمامَه. وكذلك ما عند أبي داود، في باب الرجل يُدْرِكُ الإِمامَ