للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

والجواب الرابع: أن الحديث ينبني على فرضٍ ذهني وحكمٍ معهودٍ عند الشارع، وهو: أن القاعد لا يُصَلِّي بالناس في المسجد، والمفترِض القادر لا يُصَلِّي في البيت، وحينئذٍ لا يكون قوله: «وإذا صلَّى قائمًا ... » الخ إلاّ في حقِّ الفرائض. فإِن قوله هذا، وإن كان عامًا في الظاهر، إلا أنه مقصورٌ على المكتوبات بالنظر إلى هذا الفرض، لأن صلاة الإِمام قائمًا في المسجد لا تكون إلا فريضةً. وكذا قوله: «وإذا صلَّى قاعدًا» الخ، وإن وَرَدَ عامًّا، لكنه على الفرض المذكور لم يَرِدْ إلا في النافلة، لأنه إذا فَرَضْنَاه قاعدًا، فلا يكون في المسجد، بل في البيت، ولا يكون فيه إلا النَافلة، أو فريضة المنفرِد.

فهاتان القضيتان وإن كانتا كُلِّيَّتَيْنِ لفظًا لكنهما مَخصُوصَتَان معنى، وكثيرًا ما يَرِدُ الكلامُ على فرضٍ ذهني، ثم إذا عُرِّيَ عن تلك القرائن المُحْتَفَّة والمعهودة بين المخاطَب والمتكلِّم أورث مثل هذه قلقًا، أَلا تَرَى إلى شاكلة أحاديث تنصيف الأجر وَرَدَت بدون تفصيلٍ بين الفرض والنفل، ففي الصِّحَاح عن عِمْرَان بن حُصَيْن مرفوعًا قال: «من صلَّى قائمًا فهو أفضل ومن صلاها قاعدًا، فله نصف أجر القائم. ومن صلاها نائمًا فله نصف أجر القاعد». اهـ. وكذلك ليس في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: ١٩١] الخ ... ولا في قوله: {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: ١٠٣] تفصيلٌ بين الفرض والنفل.

فلو تعرَّض في واقعة السقوط إلى هذا التفصيل لفَاتَ ذلك الوضع. فإِذا مَشَى في أحاديث تنصيف الأجر على شاكلة الإِبهام مَشَى عليها في أحاديث السُّقُوط أيضًا، ولم يتعرَّض فيها إلى القيام: أنه متى يَجِبُ ومتى لا يَجِبُ؟ وكذا إلى القُعُود أنه متى يُجُوزُ ومتى لا يَجُوزُ؟ بل تركهما على ما عُهِد من شأنهما في الخارج نعم إذا وَقَعَ التميُّزُ في الخارج، وخرجت الأقسام، فصار بعضُها فريضةً وبعضٌ آخر نافلةً، خَرَجَ بنفسه: أن القيام في الفرض لا يَسْقُطُ بخلافه في النافلة.

ثم إنك لو نَظَرْت إلى عادتهم في الخارج، ما كانت؟ لعَلِمْتَ أن الحديثَ مقصورٌ بجزأَيه على (١) النافلة، لأنهم كانوا مَشْغُوفِين بالاقتداء خلفه صلى الله عليه وسلّم أينما وجدوه يُصَلِّي، وإنما كانوا يَفْعَلُون ذلك من أنفسهم بدون ترغيب منه، كما فعلوه في صلاة الليل، فاقتدوا به، حتى قال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «خَشِيتُ أن تُكْتَبَ عليكم» فصلاتُهم هذه ما كانت لإِسقاط الفريضة، ولم تكن تُدْعَى لها، ولكنهم كانوا يَدْخُلُون فيها تحصيلا للبركة، وإحرازًا للأجر، وتوفيرًا للثواب، ونَيْلا لشرف


(١) فإن قلت قوله في القصة: "حَضَرَت الصلاةُ" يأبى أن تكون تلك الصلاة نافلةٍ، فإن هذا التعبير يَلِيقُ الفرائض.
فأجاب عنه الشيخ رحمه الله تعالى: بأن ذلك يأتي في النافلة أيضًا. قلتُ: وقد وَجَدْته بحمد الله تعالى في البخاري، أخرج في باب الكُنْيَة للصبيِّ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه في قصة أبي عُمَيْر: "فربما حَضَرَتِ الصلاةُ، وهو في بيتنا، فَيَأمُر بالبِسَاط الذي تحته فيُكْنَسُ ويُنْضَحُ، ثم يقوم ونقوم خلفه، فيصلِّي بنا" اهـ. وليست تلك إلَّا نافلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>