للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

والمنسوخ، بل يَذْكُرُ واقعتين في سلسلةٍ واحدةٍ وقعت مرةً كذا، ومرةً كذا، على أنَّا لو حَمْلَنَاهُ عليه يَلْزَم النسخُ مرتين: الأول نسخُ القيام بالقعود، ثم نسخُ القُعُود بالقيام في مرض الموت، على ما اختاره البخاريُّ والجمهور، وكذا لا دليلَ فيه على ما ذَكَرَهُ ابن حِبَّان أنها كانت نافلةً في اليوم الأول، ومكتوبةً في الثاني فسكوتُه في اليوم الأول إنما كان لكون صلاته نافلةً تَجُوزُ فيها الصُّوَرُ كلُّها بخلاف اليوم الثاني، فإنها كانت فريضة، ولا يتحمَّل فيها هذا التوسُّع.

وفيها الخلاف، وذلك لأن كونها مكتوبةً أو نافلةً تعرَّض إليه الراوي من قبله في ذَيْل القصة، لكونه مناطًا لجواز القيام أو حرمته، وليس في الحديث إيماءٌ إليه، ولا بناءٌ عليه، حيث قال: «وإذا صلى قاعدًا، فصلُّوا قُعُودًا»، ولم يُومِىء إلى هذا التفصيل، بل صرَّح أنه كَرِهَ القيام لأجل الإفراط في التعظيم. ويُقِرُّ به ما رامه مالك رحمه الله على ما قرَّرناه فنهى عن اقتداء القاعد مطلقًا وإن اقتداه قاعدًا، لأنه فهِمَ أنه تعنَّت في ذلك لِمَ لا يقتدي بإمامٍ قادرٍ مثله؟ وإن كان لا بُدَّ فاعلا فعليه أن يقومَ، فإنه فرضٌ، والكلُّ فيه أميرُ نفسه، فلا يَسْقُطُ عن ذمته، وهو الذي تُظْهِرُه رواية وليد بن مسلم عنه. ويَحُومُ حوله ما اختاره أحمد رحمه الله تعالى، فإِنه فرَّق بين القعود الطارىء والأصلي، بناءً على أن الإِفراطَ في التعظيم، والتشبُّهَ بالأعاجم، إنما هو في الثاني دون الأول.

وعُلِمَ من هذا التقرير: أنه لم يَعَمَلْ بإطلاق الحديث أحدٌ منهم، ثم لو سلَّمنا، فهذا الفرق إنما ذَكَرَه الرَّاوي في صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وما الدليل على أن الصحابةَ رضي الله عنهم أيضًا كانوا مُفْتَرِضِين في اليوم الثاني؟ فجاز أن تكون صلاتُهم على أنها نافلةٌ، بل هو الظاهر، لأن المسجدَ لم يَخْلُ عن الجماعة في هذه الأيام، وهؤلاء لم يَكُونُوا ليتركوا صلاة الجماعة في المسجد، وإنما جاؤوا للعِيَادة، واتَّفَقَ أن وَجَدُوه يَصَلِّي سُبْحَةً أو مكتوبةً، فاقتدوا به على أنها نافلةٌ لهم، والقُعُود في مثلها مطلوبٌ تحصيلا للمشاكلة، وإنما الكلام فيما إذا صلُّوْها فريضةً، وليس في الحديث.

والجواب الثالث: أن الحديثَ لو دَلَّ على وُجُوب القُعُود، وحُرْمة القيام خَلْفَ القاعد لقوله صلى الله عليه وسلّم «إذا صلَّى قاعدًا» ... الخ، لدَّل على وُجُوب القيام، وحُرْمة القُعُود خَلْفَ الإِمام القائم لقرينةٍ، وهي قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا صلَّى قائمًا ... » الخ، مع أنه لم يَذْهَبْ إليه أحدٌ.

والأصل: أنّ حال المُنْفَرِد مُنْحَصِرٌ في صورتين، وهما: العقودُ والقيام؛ بخلاف حال المصلِّي مع الإِمام، فإنها أربعةٌ ذَكَرَ منها في الحديث اثنان وبقي اثنان وهما: القعود خلف القائم، والقيامُ خلف القاعد فمن تمسَّك به غَفَلَ عن هذين، وقاس حاله مع إمامه على حاله في الانفراد. وهذا يَدُلُّك ثانيًا على أن الحديث لم يَرِدْ إلاّ في طلب المشاكلة، وهو بالقيام خَلْفَ القائم، والقُعُود خَلْفَ القاعد. بقيت صورة الاختلاف، فلم يتعرَّض لها في الحديث، فليَكِلْهُمَا إلى اجتهاد الأئمة، أو إلى حديثٍ آخر، وإلاّ لَزِمَ عدم جواز القُعُود خَلْفَ القائم أيضًا بعين هذا الحديث.

<<  <  ج: ص:  >  >>