والجواب الثاني: أن الحديثَ ليس ابتدائيًا ليدُلَّ على مطلوبية القُعُود أو وَجُوبه من جهة الشارع، بل وَرَدَ في سِيَاق التعليم حين تَعَنَّتُوا باقتدائه قاعدًا، فهو إذن لذمِّ التعنُّت في اقتداء القائم بالقاعد، وتفويت المشاكلة المطلوبة بينه وبين إمامه، وكراهية الإِفراط في التعظيم والتشبُّه بالعَجَمِ. وفَرْقٌ بين الأمر بالشيء ابتداءً، وبين الأمر به في نحو سِيَاق الإِصلاح. فإِن الأولَ أقربُ إلى الوُجُوب، والثاني يَنْزِلُ على الإِباحة أيضًا. أَلا تَرَى إلى قوله:«صلُّوا في مَرَابِض الغنم»، ليس الأمر فيه للوُجُوب، لأنه ليس ابتدائيًا كما مرَّ، فكذلك ههنا، وإنما وَرَدَ في سِيَاق الإِصلاح.
وحينئذٍ لم يَخْرُج منه تحريم القيام خَلْفَ القاعد، بل إباحته القُعُود خَلْفَ القاعد أو تحسينه، كما يُسْتَفَادُ من إشارته بالقُعُود، ويَدُلُّ عليه ما عند مسلم في حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه:«إنما جُعِلَ الإمام لِيُؤْتَمَّ به، فلا تَخْتَلِفُوا عليه». وعند الترمذي كما سيجيء:«فليصنع كما يصنع الإمام»، كل ذلك طلبًا للمشاكلة. ويتَّضِحُ ذلك مما عند أبي داود، في باب الإمام يصلِّي من قُعُود، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال:«رَكِبَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلّم فَرَسًا بالمدينة، فَصَرَعه على جِذْم نخلةٍ، فانفكت قدمه، فأتيناه نَعُودُه فوجدناه في مَشْرُبة لعائشة رضي الله تعالى يُسَبِّح جالسًا، قال: فقمنا خلفه، فَسَكَتَ عنّا، ثم أتيناه مرةً أخرى نَعُودُه فصلَّى المكتوبةَ جالسًا فقُمْنَا خلفه فأشار إلينا فَقَعَدْنا، قال: فلما قضى الصلاة قال: إذا صلَّى الإمامُ جالسًا، فصلُّوا جلوسًا. وإذا صلَّى الإمامُ قائمًا فصلُّوا قيامًا ولا تفعلوا كما يَفْعَلُ أهلُ فارس بعظمائها» اهـ.
فسكوتُه في اليوم الأول دليلٌ صريحٌ على عدم وُجُوب القُعُود خَلْفَ القاعد، وعدم حُرْمة القيام خلفه، ولذا لم يُشِرْ إليهم بالقُعُود، ولا علَّمهم شيئًا في هذا الباب، حتى إذا أحسَّ منهم التعنُّت فيه، حيث جاؤا في اليوم الثاني أيضًا واقتدوا به، فحينئذٍ عَنَّفَهم على تعنُّتهم ذلك وابتغائهم الإِمام القاعد. مع أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان سوَّى لهم إمامًا قادرًا في المسجد النبوي ليصلِّي بهم، ثم صلَّى في المَشْرُبَة مُتَنَحِّيًا عنهم، ومع ذلك لم يَتْرُكُوه حتى اقتدوا به في صلاته قاعدًا، ولمَّا فَعَلُوا ذلك في اليوم الثاني عَلِمَ أنه لم يكن ذلك منهم اتفاقًا، بل كان قَصْدًا فمنعهم عن ذلك.
ولو رَاعَيْتَ معه قوله عند مسلم:«إن كِدْتُم آنفًا تَفْعَلُون فِعْلَ فارس والروم. يَقُومُون على ملوكهم وهم قُعُود، فلا تَفْعَلُوا ائْتَمُّوا بأئمتكم ... » إلخ، لعَلِمْتَ أن النهيَ عن القيام خَلْفَ القاعد إنما هو للإفراط في التعظيم، إلا أنه يُخَالِفُ منصب الائتمام فمعنى الكراهة: هو الإفراط في التعظيم والتشبيه بالتمثُّل للأمراء، ولذا أَغْمَضَ عنهم في مرض الموت، لأنهم لم يَقُومُوا له، وإنما كانوا قائمين من قبل، ثم خَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم هو وأمَّهم قاعدًا، فلم يُوجد منهم التعنُّت في الاقتداء، ولا الإفراط في التعظيم. وإنما اسْتَشْعَرَ ذلك منهم في واقعة الجحوش، فنهاهم.
والقول بنسخ الأول من الثاني لا يَقْبَلُه الذَّوْقُ، فإن الراوي لا يذكرهما كالناسخ