للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الإِمام مع كون القوم قائمين، ففيه قُعُودٌ للقائم، دون القيام للقاعد، وبينهما بَوْنٌ بعيدٌ، واسْتَفْتِ قلبَك إن شِئْتَ، فهذا هو الذي دَعَى الإِمامُ إلى الفرق بينهما.

وأمَّا مالك رحمه الله تعالى، فالمشهور عنه أنه لا يَجُوز اقتداء القادر بالقاعد مطلقًا، لا قائمًا ولا قاعدًا. وروى وليد بن مسلم عنه جَوَازَه عند قيام القوم، وحَمَلَها الناسُ على اختلاف الروايتين. وعندي ليس كذلك، بل مذهبهُ هو مجموعُ الروايتين، وقد نَبَّهْتُكَ فيما سَلَفَ أن روايةً قد تَرِدُ عن إمام، ثم تَرِدُ أخرى، وتكون كلتاهما كاشفتين عن وجهة وجهة، ولا يتمُّ المراد إلا بهما، ثم يحملهما الناس على الروايتين. وما الفرق بين الروايتين عن إمامٍ، وبين الحديثين عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلّم حيق يَطْلُبُون جهة التوفيق والقدر المشترك بين المرفوعين، ولا يَطْلُبُونها بين الروايتين، ولو سلك الناس هذا المسلك، لاسترحنا كثيرًا.

وحاصل مذهبه على هذا التقدير: تجويزُ القيام خلفَ القاعدِ مع تقبيح ابتغاء اقتداء القائمين بالقاعد مع تمكُّن الاقتداء بالقائم القادر. ولا بحثَ فيها عن الجواز وعدمه، فالروايةُ الأولى عندي لبيان عدم الابتغاء، وأنه ينبغي أن لا يَقْتَدِي القادرُ بالمعذور مهما أمكن الاقتداء بالقادر. والروايةُ الثانيةُ لبيان جوازه في الجملة، فهي تَكْشِفُ الروايةَ الأولى، وتوضِّحُ أن نفي الاقتداء في الرواية الأولى محمولٌ على عدم الانبغاء، لا على النفي رأسًا، فهذه كاشفةٌ عن وِجْهة، وهذه عن وجْهة، والمراد بتمامه في المجموع.

إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن ههنا أمرين: الأولُ: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم «إذا صلَّى قاعدًا، فصلُّوا قُعُودًا»، والثاني: إشارتُه إليهم بالقعود حين اقتدوا به قائمين. ويجب علينا لتفصِّي عنهما، فنقولُ في الجواب عن القول على ما أَجَابَ به ابن دقيق العيد: إن في قوله: «إذا صلَّى قاعدًا» ... الخ إحالةً على موضع القعود، وليس المراد القعود بدل القيام، أي إذا قَعَدَ الإمامُ في قَعْدَتِهِ فاقعدوا أنتم أيضًا، ولا تختلفوا عليه. ولا بُعْدَ فيه، لأن حديث أنس رضي الله عنه يَشْتَمِلُ على سلسلة في أفعال الصلاة، من القيام إلى الركُوع، ومن الركُوع إلى القيام، ومن القيام إلى السُّجُود، ومن السُّجُود إلى القُعُود، فأي بُعْدٍ في إرادة هذا القيام، وهذا القُعُود. وأوْرَدَ عليه هو بنفسه أن الألطف في هذا المراد: إذا قَعَدَ فاقعدوا، ليُوَافِق قرائنه: إذا كبِّر فكبَّروا ... الخ، مع أنه غَايَرَ بين السياق، وقال: «إذا صلَّى قاعدًا ... الخ، فدَلَّ على أنه لم يُرِدْ به ذلك.

قلتُ: وجوابُه عندي: أن أفعالَ الصلاة على نحوين: بعضُها عبادةٌ كالرُّكُوع والسُّجُود، وبعضُها يُشْبِهُ العادة أيضًا كالقُعُود والقيام، فإِنهما من الأحوال العامة أيضًا ولا يتعيَّنان في العبادة، فأَدْخَل عليها لفظ الصلاة للفرق بين العبادة والعادة والتمحُّض للعبادة، وهكذا فَعَلَه القرآن، فإذا ذَكَرَ الركوعَ والسجودَ أطلقهما، وقال: {ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ} [الحج: ٧٧] وإذا ذَكَرَ القيامَ أَتْبَعَهُ بلفظٍ يُشِيرُ إلى كونه عبادة، فقال: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: ٢٣٨]، ولم يَأْمُر في موضع بالقيام مطلقًا كما أَمَرَ بالركُوع والسجُود، وذلك لأن: {وَقُومُواْ} لا يتعيَّن للعبادة، بخلاف الركوع والسجود.

<<  <  ج: ص:  >  >>