يقول العبد الضعيف: والحديث وإن مرَّ مِرَارًا، ويأتي كذلك، إلاّ أنه ظَهَرَ لي الآن أن أتكلَّم على بعض مسائله، وهي مسألة اقتداء القائم بالقاعد، وإن تكلَّمت عليه فيما سَلَفَ أيضًا.
فأقول إن الحديثَ بظاهره يُخَالِفُ كل من اختار وجوب القيام خَلْفَ القاعد من أئمة الحنفية والشافعية. واشتهر عنهم في الجواب عنه أنهم قالوا بالنسخ، وهو الذي اختاره البخاريُّ رحمه الله تعالى، ولا يَعْلَقُ بالقلب، لأن الحديثَ مُشْتَمِلٌ على أجزاءَ كثيرةٍ من تشريع عامَ، وضابطةٍ كلِّيَّةٍ على نحو بيان سنة، وسردِ معاملةٍ بين الإمام والمأموم. فالقول بنسخ جزء من الأجزاء من البيِّن، وإبقاء المجموع على ما كان ثَمَّ بواقعةٍ جزئيةٍ تَحتُمَلُ محامل، مما يُفْضِي إلى الاضْطِراب، ولا يشفي.
ولعَمْري، إنا لو لَمْ نعلم هذه المسألة، لَمَا انتقل ذِهْنُ أحدنا إلى أن صلاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم تلك قاعدًا كانت لبيان النَّسْخِ، وإنما حملناها عليه حِفْظًا للمذهب فقط، وإلا فالجمع بين الأحاديث يَحْصُلُ على مذهب أحمد ومحمد بن الحسن رحمه الله تعالى منا، ولا يُحْتَاج إلى النَّسْخِ. أَلا تَرَى أن ساداتنا لمَّا تَرَكُوا مسألة جواز الاستقبال والاستدبار، لم يُبَالُوا بوقائع تُنْقَلُ في هذا، وقالوا: إنها وقائع غير مُنْكَشِفة الحال. وحديث أبي أيوب تشريعٌ عامٌّ، فلا أَدْرِي، ولَسْتُ إخال أدري أنه ما الفرق بين هذين؟ فَذَهَبُوا إلى النَّسْح ههنا دون هناك.
ولقد تفرَّد الشيخ رحمه الله تعالى بحلِّه، فجمعته من تقاريرٍ له شتى عندي بَعْدَ جِدَ واجتهادٍ تامٍ، وفكرٍ بالغٍ، وتعمُّقِ نَظَرٍ، وإعمالِ درايةٍ، وإتعاب نفسٍ، فاجتمعت عندي عِدَّة أجوبة من كلامه، وها أنا أسردها على ما هذَّبتها، فهل من حرَ يَنْظُرُ بعين الإنصاف، ولا يَسْلُكُ مَسْلَكَ الاعتساف، وإنما وَضَعْتُ هذه في صدر الصحيفة، لأن كلها من الشيخ رحمه الله تعالى، ما خَرَمْتُ منها حرفًا، ولا زِدْتُ عليها حرفًا غير البيان والإِيضاح، وأرجو من الله سبحانه أن يكون هذا هو مراده إن شاء الله تعالى.
تحرير المذاهب: وأعلم أن الشافعيةَ والجمهورَ مع الحنفية رحمهم الله تعالى في وُجُوب القيام خَلْفَ الإِمام القاعد، وعدم جواز القعود خلفه. وذهب أحمد رحمه الله تعالى إلى وُجُوب القُعُود خلف القاعد ولو كان القومُ أصحَّاء ثم ذَكَرُوا له شروطًا: من كون الإمام إمام الحيِّ، ومرضه ممَّا يُرْجَى زواله. ثم فرَّقُوا بين القُعُود الطارىء. والأصلي، فتحمَّلوا قيام القوم في الأوَّل دون الثاني، ووجه الفرق ما نُقِلَ عن أحمد رحمه الله تعالى.
وحاصله: أن وُجُوبَ القُعُود، وكراهة القيام خلف القاعد، إنما هو لأجل الشَبُّه بالأعاجم في إفراط التعظيم لعظمائهم، كما يتَّضِحُ من سِيَاق أبي داود. وذاك إنما يُتَصَوَّرُ إذا كان الإمام قاعدًا من أول الأمر، لأن قيامهم حينئذٍ يُعَدُّ من قيام الأعاجم، حيث إنهم أيضًا يَقُومُون بين يدي أمرائهم الجالسين. وأمَّا إذا أمَّهم الإمام قائمًا، واقتدى به القوم كذلك، ثم طَرَأَ على الإِمام عُذْرٌ فَقَعَدَ فلا يُعَدُّ قيامهم للتعظيم، فإنهم كانوا قائمين من قبل، وإنما أَوْرَث صورةَ التعظيم قعودُ الإمامِ.
وبعبارةٍ أوضح: إن التعظيمَ إنما هو في القيام للقاعد، دون القُعُود للقائم، فههنا قَعَدَ