أقرب إلى الحديث، لِمَا ثَبَتَ عندي الاكتفاء بالتسليم الواحد. وقيل: كلاهما واجبان، فيُشْكِلُ عليه الحديث، وقد اسْتَرَحْتُ باختيار القول الأول، فلا تأويل عندي.
ثم اختلف الشارحان في قوله:«وافتتاح الصلاة»، ولم يُدْرِكَا مراده بعد البحث والفحص أيضًا، واختار الحافظ: أن الواو بمعنى مع، لأنه رَأَى أن افتتاح الصلاة في الخارج لا يكون إلا بالتكبير، وما كُشِفَ لي في بيان مراده هو أن المصنِّف يُرِيدُ تَعْيين ما به افتتاح الصلاة، هل هو التكبير أو رفع اليدين؟ فقال إن الصلاة تُفْتَتَحُ بالتكبير، فلو رَفَعَ إحدى يديه، ولم يكبِّر لا يكون شارعًا في الصلاة، وهذا كاختلافهم فيما يَدْخُل به في الحج، وهو إحرام الحجِّ. فعندنا لا يَدْخُلُ في إحرام الحجِّ إلا بالتلبية مع النية، وهذا إحرامٌ قَوْليٌّ، أو بفعلٍ مخصوصٍ بالحجِّ، وهذا إحرامٌ فِعْلِيٌّ. وأما عند الشافعية: فلم يَتَنَقَّح بَعْدُ، وعليه قوله صلى الله عليه وسلّم «تحريمها التكبير - وفي لفظ - إحرامها التكبير»، يعني كما أن للحجِّ إحرامًا وإحلالا، وهو معروفٌ، كذلك للصلاة تحريمًا وتحليلا: فتحريمها بالتكبير، وتحليها بالتسليم.
فَعُلِمَ أن ما يَدْخُلُ به الرجلُ في صلاته هو التكبير لا رفع اليد فقط، وإنما أَدْرَكْتُ مراده بعدما رأيت حكايةً: أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى ذَهَبَ لعيادة أبي يوسف رحمه الله تعالى، وكان مريضًا فقال: إني كُنْتُ ظَنَنْتُ أنه يَبْقَى مِنْ بعدي، فحدَّثت نفسُ أبي يوسف رحمه الله تعالى. بأنه يُشِيرُ إلى إجازته بالقعود للدرس. فلمَّا صَحَّ أرسل أبو حنيفة رحمه الله تعالى إليه رجلا يسأله عن ثلاث مسائل: أولاها أن تحريمة الصلاة ما هي؟ فلم يُحْسِن في جوابه، فَعَلِمَ أنه لا يَلِيقُ أن يَجْلِسَ إليه الناسُ، فنقض حلقته، ودخل في حلقة أبي حنيفة.
وفي «مجموع زيد بن عليّ» - وهو زيدي من مُعَاصِري أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وإمام فِرْقة الزيدية، وهو ثِقَةٌ يروي الأحاديث الصِّحَاح، وهي أقرب المذاهب إلى أهل السنة من سائرهم. وسَبُّ الصحابة حرامٌ عندهم. إلا أن الآفة في كتابه من حيث جهالة ناقليه: أنه لمَّا وَرَدَ الكوفة، قَعَدَ أبو حنيفة رحمه الله تعالى بين يديه إكرامًا له وإجلالا، لكونه من أهل البيت، وفيه: أن أبا جَعْفَر رضي الله عنه سَأَلَ الإمامَ أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن تحريمة الصلاة، أهو بالتكبير، أم برفع اليد؟ فقال: بالتكبير. ولمَّا ذَهَبَ الإمام قال: نَعْمَ فقيهٌ. فَفَهِمْتُ أن البخاريَّ رحمه الله تعالى يُشِيرُ إلى هذه المسألة، واختار أن تحريمة الصلاة بالتكبير.
ثم اعلم أن الأصوليين قَسَّمُوا الخِطَاب على نحوين؛ وَضْعِي وتكليفي. فأما التكليفي، فكالوجوب وغيره، وأمَّا الوَضْعِي، فكالسببية والمسببية وعلائق الأشياء فيما بينها، وذلك لأنهم أرادوا تقسيم الأحكام إجمالا، فجعلوا بعضها وَضْعِيَّة، وبعضها تكليفيَّة، وهو حسنٌ ومهمٌ جدًا. فالتكبير والتسليم من الأحكام الوَضْعِيَّة، لأن التكبيرَ سببٌ للدخول، والتسليم سببٌ للخروج، وليس في الصلاة حكمًا وضعيًا غيرهما، ومنه ظَهَرَ وجه تخصُّص هذين في الحديث. ثم إن الخروج في باب الحجِّ يكون بالحَلْق، وهو جناية في غير أوانه، وكذلك السلام، وهو الخروج بصُنْعِه فاعلمه.