للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الإغماض، فإلى ثلاثة وعشرين. ولنا: حديثُ ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا، ومرسلٌ آخر


= وها أنا أريدُ الآن أن ألقي عليك شيئًا تاريخيًا ينبِّهك على ما وَقَعَ فيه من الإفراط والتفريط، لخَّصْتُه من رسالة الشيخ المسماة بـ: "نيل الفرقدين لرفع اليدين". ومن الإحساسات اللطيفة للشيخ ما تَقِر عينكَ، وترِيح نفسك وتُثلِجُ صدركَ، وتضيء بدركَ. واصفَحْ عن الكلام في الأسانيد، فإنه قليل الجدوى في هذا المقام، فقد بلوتهم أنهم يُسَامِحُون عند الوِفَاق، ويُمَاكِسُون عند الخلاف، وهذا كما تَرَى لا يكفي ولا يشفي، فإنْ كان بكَ شغفٌ به فارجع إلى رسالة الشيخ تغنيك بالإصْبَاح عن المِصْباح.
واعلم أن الرفع متواترٌ إسنادًا وعملًا، ولم يُنْسَخ منه ولا حرفٌ، وإنما بقي الكلامُ في الأفضلية كما صرَّح به أبو بكر الجَصَّاص في "أحكام القرآن"، والحافظ ابن تيمية في "فتاواه" وفي "منهاج السنة" وابن القيم في "الهدي" وأبو عمر في "التمهيد" على ما فَهِمه صاحب "مباني الأخبار"، وكانت قِطعة منه عند الشيخ.
وأمَّا الترك، فإن لم يكن متواترًا إسنادًا لكنه متواترٌ عملًا، ولا ريب فقد كان أهل الكوفة كافة على الترك، كما قال ابن نصر. ولفظه كما في تعليق "الموطأ" نقلًا عن "الاستذكار": "لا نعلمُ مِصْرًا من الأمصار تَرَكوا بإجماعهم رفعَ اليدين عند الخفض والرفع إلَّا أهل الكوفة". اهـ. وهذه العبارة كما تَرَى اسْتَوعَبت كل أهل الكوفة، فكُفينا عُهْدَة استقرائهم، ويُفْهِمُ أن غير الكوفة تاركون أيضًا، وهكذا نَقَلَه في شرح "الإحياء". وهو أصل عبارته. ونقله الحافظ رحمه الله في "الفتح" هكذا: قال محمد بن نَصْر المَرْوَزِي: أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك أي رفع اليدين - إلَّا أهل الكوفة. اهـ. وهكذا نَقَلَه الشَّوكَاني في "الدراري المضيئة"، فتحرَّفت العبارة وانْخَرَمَ المراد.
ثم إن أهل الكوفة تعلموه من ابن مسعود وعليِّ رضي الله عنهما، وكانت الكوفة معسكرًا في زمن عمر رضي الله عنه، فلعله وَرَدَ فيها ألوفٌ من الصحابة رضي الله عنهم. وفي "فتح القدير" في باب المياه: إن القَرْقِيسَة نَزَل فيها ستمائة من الصحابة رضي الله عنهم، وهي قرية من الكوفة، فإذا وَرَدُوا القرية الصغيرة مثله، فاقدر حال الكوفة. وعند الدُّولَابي في "الأسماء والكنى": أنه نَزَلَ في الكوفة ألف وخمسمائة من الصحابة رضي الله عنه، وهو محمول على نحو من الاعتبار، وإلَّا فقد وَرَدوا فيها أضعاف ذلك لِمَا عَلِمْت أنها كانت دارًا للعسكر في زمن عمر، فليس عملهم بهيِّن، وكذا كثير من التاركين كانوا في المدينة في عهد مالك، وعليه بَنَى مختاره. وأمَّا أهل مكة، فكان أكثرهم يرفعون وتعلَّموه من ابن الزُّبَير، وكان يرفع وعليه بَنَى الشافعي مذهبه.
والذي يَظهَرُ أن الأمرَ في الرفع والترك في عهد الخلفاء كان على الإرسال والإطلاق، فمَن شَاءَ رَفَعَ، ومَن شَاء تَرَكَ، ولم يُعَنِّف منهم التارك على الرافع، ولا الرافعُ على التارك. ولو جَرَى البحثُ فيه، وظَهَرَ الخلاف في زمن الخلفاء لا نفصل. وهل يَلْصَقُ بالقلب أنه وَقَع فيه البحث في زمن أبي بكر رضي الله عنه، ثم لم ينفصل شيء، ولم يَثبُت قدمٌ في نحو الصلاة حتى فَصَله ابن الزُّبَير رضي الله عنه، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، عند وفاة أبي بكر رضي الله عنه، فحقّقه، وحينئذٍ حَصْحِصِ الحق، وتخلَّص الأمر عند الخلاف. بل الأمرُ أنهم كانوا في خِيَرة منه حتى اعْتَنَى به بعضٌ من الصغار، وتنوَّهوا به كابن الزبير في مكة، وابن عمر في المدينة. وذلك في سَجِيَّةِ الصغار أنهم يَعْتَنُون بأمورٍ يسيرة ولا يعتني بها الكبار.
أَلا ترى أن ابن الزبَير كان يَجْهَرُ بالتسمية، ومنه تعلَّمه أهل مكة، فاستمرُّوا عليه إلى زمن الشافعي، مع أنه لم يكن في عهد الكبار. وكذا جَهْرُ آمين أخذوه منه، مع أن أكثر الصحابة والتابعين كانوا على الإسرار، كما ذكره "الجوهر النقي" عن ابن جرير. وكذا كان ابن الزُّبَير يؤذِّن ويُقِيم للعيدين، كما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى في "الفتح"، وكان يُرسِلُ يديه كما في "المغني"، فذقه. =

<<  <  ج: ص:  >  >>