ومن هنا ظَهَر وجهُ ما رُوِي عن ابن الزبَير، عن أبي بكر بإسناد إلى رب العالمين: "أنه كان يرفع يديه"، فإن أصله: هو تعلُّم ابن الزُّبَير من أبي بكر نفس الصلاة، لا خصوص رفع اليدين. وإنما رَفَعَها من علَّمه، ثم جاء بعده ممن اختار الرفع، فألحق رفعه أيضًا بهذا الإسناد زعمًا منه أنه صلى خلف أبي بكر رضي الله عنه. فلعلَّه حقَّق منه الرفع أيضًا، مع أنا نجد في غير واحدٍ من الأحاديث أنه يكون عندهم من صفات الصلاة، أو من وضوئه - صلى الله عليه وسلم - شيء، ثم يريدون تعليمها، فيقولون: أَلَا أريكم صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو وضوءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكون عندهم إلَّا جزءٌ منه. وهكذا فليعتبره ههنا، فإن ابن الزُّبَيْر رضي الله عنه لمَّا تعلَّم الصلاةَ من أبي بكر رضي الله عنه -ومعلومٌ أن أبا بكر رضي الله عنه تعلَّمها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك هو من جبريل، وهو من خالق السماوات والأرضين- أَسْنَدَ من جاء بعده رفعه أيضًا بهذا الإسناد، وإن كان رفعه من علمه فقط، وليس هذا تلبيسًا وتخليطًا، وإنما يكون الأمر عندهم كذلك في الواقع، وإنما حققته أنا من القرائن. فانصف من نفسك: أن هذا الإسناد -أعني أبا بكر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل، عن الله جل مجده- هو إسناد الدين جملة أو إسناد رفع اليدين، خاصة، فكأن الرواة أرادوا بذلك الإسناد أن ما عند ابن الزُّبَير لا يكون إلَّا سنة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه تعلَّم الصلاةَ من أبي بكر، وحاله معلومٌ، وهل يحتاج مثل أبي بكر أن يقول: صليت خلف النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ وأين كان يُصَلِّي دونه، وإنما يَحتَاجُ مَن يُسْتَبعَدُ صلاتَه خلفه - صلى الله عليه وسلم -، أو تكون قد وقد، نعم لو قَالَ أبو بكر: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعُ، واقتصر عليه لكان له بعض اتجاهٍ، ولكن وَصْله إلى رب العالمين مما لا يُعْقَل عنه، فإذن هو إسناد الدين المحمدي، ألْحَقَه بالرفع أيضًا ممن اختاره بعدُ اهتمامًا به. يقول العبدُ الضعيفُ: وهذا نحو ما رواه الترمذي في مناقب أنس رضي الله عنه: حدَّثنا ثابت البُنَاني قال: "قال لي أنس بن مالك: يا ثابت، خُذْ عني فإنك لن تأخذَ عن أحدٍ أوثق مني، إني أخذته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل، وأَخَذَه جبريل عن الله عز وجل" - فلا رَيْبَ أن ذلك هو إسناد الدين كلِّه دون إسناد الرفع بخصوصه. ثم إنك قد عَلِمْتَ أن التساؤلَ عن الرفع والترك لم يجر في زمانه، وإنما توَّجهت الأذهان إلى الخلاف فيه في زمن الصغار، فلا يكون ذكرُ هذا الإسناد من أبي بكر، ولا من ابن الزبير، وإنما هو ممَّن نَقَلَ رفع ابن الزُّبَيْر، ثم أراد تقويته، وقد عَلِم تعلُّم صلاته من أبي بكر، فذَكر هذا الإسناد اكتفاءً بإسناد الدين، فدَعْ عنك التسلسل في العَنعَنَة، وخُذ بما يَقَعُ في الشاهد في أخذ أهل، البلاد من علمائها طبقة بعد طبقة، صغارهم من كبارهم، لا سؤالًا جزئيًا، لا سِيَّما فيما لم يقَعْ فيه الاختلاف بعد. والحاصلُ: أن الإسناد من أبي بكر ... إلخ، هو إسنادُ الدين عندي لا خصوص الرفع، ثم إنا لا نُنْكِرُ أن يكون قد رَفَعَ ولو مئات من المرات، وإنما الكلامُ في النقل عنه بالطريق المذكور، وينبغي أن يلخص أنه ليس عند الكوفيين عن أبي بكر رضي الله عنه شيءٌ، ولعلَّه ليس عند غيرهم أيضًا ما يكون ثابتًا عندهم، وعندهم عن عمر أثبت مما عند خصومهم. وقد وَافَقَنَا على ذلك ابن بَطَّال أن عمله كان على الترك، ولم يَثْبُت عنه الرفع، وهو أبلغ ممَّا قاله الطَّحاويُّ: ثَبَتَ ذلك أي الترك عن عمر. =