للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تحت قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ} [البقرة: ١٨٣] أن المسألة إذا وَرَدَت فيها الأحاديثُ


= فاعلم أن حديث ابن عمر رضي الله عنه قد رُويَ على وجوه:
أحدها بذكر الرفع عند الافتتاح فقط، وهو عن مُجَاهد من طريق أبي بكر بن عيَّاش، عن حُصَين، وعند الطَّحاوِي بإسناد صحيح، عن أبي بكر بن عيَّاش قال: ما رأيت فقيهًا قطُّ يفعله: يَرْفَعُ يديه في غير التكبيرة الأولى، وإنما أراد بالفقيه ما نبَّه عليه الشيخ رحمه الله تعالى من عدم اعتناء الكبار، وإنما هو من فِعْل الصغار، كعادة اعتنائهم في أمثال ذلك وأما الكبار فهَمُّهم في تكميل الفرائض والواجبات أكثر من تكميل المباحات والمستحبات على خلاف دَأْب الصغار. ولو رأيتَ في الخارج لوجدتهم كذلك إلى اليوم، وهكذا عن حُصَيْن.
وهذا يَدُلُّ على أن أثرَ ابن عمر ثابتٌ. وتَابَعَ مجاهدًا عبدُ العزيز بن حكيم، عن محمد بن الحسن في "موطئه"، وفيه: وإن كان محمد بن أَبَان، لكنه يصلحُ للاعتضاد، مع أن الجمعَ بين ما رواه مُجَاهد وما رواه غيره ممكنٌ، بأنه رَفَعَ يديه مرةً وتركه أخرى، فلا ضيق، وإنما يَضطَرُّ إلى الإعلال من اختار الرفعَ ثم استَصْعَبَ عليه التركُ، فلم يتركه حتى أعلَّه.
وثانيها: بذكر الرفع عند الركوع فقط، وهو عن مالك أيضًا في "الموطأ"، وبذكره عند الركوع والرفع منه، وهو عن مالك خارج "الموطأ"، وبالاختلاف بين سالم ونافع فيه في الرفع والوقف. وبذكره بعد الركعتين أو عدمه. وبذكره للسجود، فيه مرفوعًا عند البخاري في "جزئه"، ومن عَمَل ابن عمر موقوفًا عند ابن حَزْم: وكُنَّا نَحْمِلُ ذكره في الموضع الأول فقط، أي عند الرُّكُوع على الاختصار، ولم نكن نَعُدُّ هذا انتشارًا. ولكن ثَبَتَ التنوُّع في هذه المسألة فلا نحمله إلَّا على التنوُّع، فإنَّ التعاملَ أكبرُ شاهدٍ للصحة فوق الإسناد عند من له بَصَرٌ وبصيرةٌ، فليكن ذلك أيضًا وجهًا، وإنما يتعسَّر ذلك على من تَمَذْهَبَ بصورةٍ مخصوصةٍ، ثم لم يستطع العملَ بكل ما وَرَدَ، فَجَعَلَ يتعلَّل بالإعلال. وأما من رآه واسعًا، فلا ضيقَ عليه.
عَقَدَ الخلائقُ في المقام عقائدًا ... وأنا اعتقدت بكلِّ ما اعتقدوه
ثم إن الوجهَ في كثرة طُرُق حديث ابن عمر كثرة "الموطآت"، وإن رواية مالك والزُّهري، وأصحابهما مفرَّقون على البلاد، لإقامة الزهريِّ في الحجاز والشام، وأكثر أحاديثهما تَكبُرُ طُرُقه لذلك، فيُوهِمُ كثرة العمل، بخلاف أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه وذويه، فإِنهم لم يَدُورُوا كذلك.
وبعدُ: فكل هذا حَدْسٌ منا ومنهم، فكما يمشون يُمَاشون، وكما يجرون يُجَارون، وليس العلم إلَّا عند الله، وكان الصواب أن لا يتعلَّل في رواية الاثبات إذا سَاعَدَه العمل، وكان الأمر من الاختلاف المباح، ولا يرمي بالغيب، وأن لا يتعلَّل في خلاف ما اختاره المرء من كل وجهٍ، ولا يُبْدِي فيه كل عذرٍ، فإنه يَدُلُّ على عدم إرادة العمل به من الأول والسلوك فيه سبيلُ الجدل، ولكنَّ اللهَ يفعلُ ما يريدُ.
هذا كلَّه ملخَّصٌ من رسالة الشيخ رحمه الله تعالى تلخيصًا، فإن رسالته بسيطة جدًا، وإنما التقطت منها جُمَلًا مختصرةً، أردت إلقاءها عليك، لتتقدَّر قدرَ الشيخ رحمه الله تعالى وغايةَ عدله في باب المسائل.
ثم من الناس من زَعَم أن الرفعَ منسوخٌ، ولهم في ذلك طُرُقٌ: فمنهم من استدلَّ بحديث جابر عند مسلم: "ما لي أراكم رافعي أيديكم". وفي طريقه الآخر عنده تصريحٌ بكونه في تسليم التشهُّد، فالشافعيةُ حَمَلُوا الأول على الآخر. وذكر الزَّيْلَعِي الفرق بينهما بثلاثة وجوهٍ، من شاء فليراجع. ومنهم من زَعَمَ أن ثبوتَ الترك في الجنس دليلٌ على نسخ الأصل، كما قرَّرُوا في حديث التسبيع في سُؤْرِ الكلب: أنه كان في زمن التشديد في أمر الكلاب، وهو النظرُ عندنا في مسألة الرَّضَاعة: تدرَّج النسخ فيها من عشر رضعات حتى نُسِخَ رأسًا.
ومنهم من لم يَتَشَبَّثْ بأصلٍ، وقال: إن العِلْمَينِ خيرٌ من عِلْمٍ، فمن قال بالترك عنده عِلْمَان: أي الرفعُ والتركُ، بخلاف من قال بالرفع، ثم ذكروا فيه حكاية الإمام أبي حنيفة مع الأوزَاعي رحمهما الله تعالى، وأن علم الصحابة =

<<  <  ج: ص:  >  >>