ثم اعلم أنه ذَهَبَ الأوْزَاعيُّ وآخرون إلى وُجُوب الرفع عند الإحرام، وسنيته فيما عداه، حتى أنه عند ابن حَزْم أيضًا كذلك كما في "التلخيص". ولا فرقَ فيهما عندي إلَّا أنه ثَبَتَ التركُ عندهم في سائر المواضع، فلم يَسَعْ لهم القول بالوجوب فيها، فَلَزَم الحافظُ رحمه الله في "الفتح" تصحيحَ حديث ابن مسعود من حيث لم يَشَأ. فأجاب عنه: أنه دليلٌ على عدم الوُجُوب لا عدم الاستحباب، فلهم في الحديث بهجتان: جهرٌ بالإعلال في مقابلة التاركين، وإخفاءٌ بالتصحيح في مقابلة المُوجبين، وفي الذكر في النفس تضرُّع وخيفة، وقد وَعَدَ في "الفتح"، في الباب الأول الإيرادَ على الوُجُوب، ثم لم يَأتِ في الباب التالي إلَّا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه. ولعلَّك عَلِمْتَ الآن أن العملَ في هذا الباب بالنحوين، ونفيَ الترك باطلٌ، بَقِي أن الرفعَ أكثرُ أو التركَ؟ فلم يَجزِم الشيخ رحمه الله فيه بشيءٍ، ولو تبيَّن لم يحكم به لسِرَاية الاجتهاد في هذا الباب، فيمكن أن تكون كثرة الرفع، لأنه وجوديٌّ، والترك عدميٌّ، فترجَّح عندهم الرفعُ لكونه عبادة بخلاف الترك، فإنه تركُ عبادةٍ. وأجاب عنه الشيخ رحمه الله تعالى: أن التركَ أيضًا قد تكون عبادةً كترك الترجيع، وهذا حيث يكون التركُ قَصْدِيًا لا على طور العدم الأصلي، وقد ثَبَتَ الترك قصدًا أيضًا، فلم يكن على طريق العدم الأصليّ، وحينئذٍ جاز أن يكون التركُ أرجح، لأن مبني الصلاة على السكون. نعم يَنْفَصِل ذلك أن ثَبَتَت الكثرة في جانبٍ عن صاحب الشريعة نفسه، ولم يَثبُت بعدُ، وإذا اختلف في نقل العمل، ولم يتبيَّن كثرته إلى جانب عَدَلْنَا عنه، وأخذنا طريقًا آخر، وهو استغرابُ الرواة الرفع، وتردُّدهم فيه، وتساؤلهم عنه، فعند أبي داود عن ميمون المكيّ: "أنه رَأَى عبد الله بن الزُّبَيْر، وصلَّى بهم يُشِيرُ كفيه حين يَقُومُ وحين يَرْكَعُ، إلى أن قال: فانطلقت إلى ابن عباس رضي الله عنه فقلت: إني رأيت ابنَ الزُّبَيْرِ صلى صلاة لم أرَ أحدًا يصلِّيها، فوصفت له هذه الإشارة، فقال: إن أحْبَبْتَ أن تَنْظُرَ إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقتدِ بصلاة عبد الله بن الزبير رحمه الله تعالى". اهـ. وعنده عن النَّضْر بن كثير قال: "صلى إلى جنبي عبد الله بن طاوس في مسجد الخَيْف، فكان إذا سَجَدَ السجدة الأولى، فرفع رأسه منها، رفع يديه تِلْقَاء وجهه، فأنكرت ذلك، فقلت لوُهَيب بن خالد، فقال له وُهَيب بن خالد: تصنعُ شيئا لم أر أحدًا يصنعه، فقال ابن طاوس: رأيت أبي يصنعه، وقال أبي: رأيت ابن عباس يصنعه، ولا أعلم إلَّا أنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنعه". اهـ. ونحوه في "المسند": استغراب الحَكَم إياه عن طاوس، حتى أسنده بعضُ أصحابه إلى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو عند البيهقي بزيادة عمر في الإسناد، وهو وَهْمٌ أعلَّه أحمد كما في "الجوهر النقي". وأصل الرواية كما عند أحمد، ولذا أعلَّ زيادة عمر. واستغرابُ مُحَارب بن دِثَار عن ابن عمر في "المسند"، قال: رأيت ابن عمر يَرْفَعُ يديه، كلما رَكَعَ، وكلما رَفَعَ رَأسَه من الركوع، قال: فقلت له: ما هذا؟ قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الركعتين كبَّر ورَفَعَ يديه" ... إلخ، وابن عمر رضي الله عنه هو الذي كان يُبَالغ فيه، ومُحَارب قاضي الكوفة كما عند البخاري من اللباس، فلم يعلمه مَنْ ببلدته، فَدَلَّ على عمل بلدته، ونحوه في "المسند" عن سالم بن عبد الله: "أنه رَأَى أباه يَرْفَعُ يديه إذا كبَّر، وإذا رَفَعَ رأسَه من الركوع، فسألته عن ذلك، فَزَعَم أنه رَأَى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنعه". اهـ. هذا الذي أردنا أن نُتْحِفك به من قطعة تاريخية التقطناها من رسالة الشيخ رحمه الله تعالى فَخُذها راضيًا مرضيًا؛ والآن سنح لنا أن نتكلَّم على حديث ابن عمر رضي الله عنه شيئا ملتقطا من كلامه، فإنه العمود في هذا الباب. =