وأقضي التعجُّب من هؤلاء الذين يَجْعَلُون المصَنِّف رحمه الله تعالى إمامهم في ذلك، ثم لا يَرَوْنَ إلى فَتْرَتِهِ وشِرَتِهم. وإذا فَتَرَ إمامُهم، فما تُغْنِي عنه شِرَتهم، وأين تقع منه. فلْيُغْمِضُو أعينَهم، فإن الصبحَ قد انْبَلَجَ لكلِّ ذي عينين.
فاعلم أن ههنا مسألتين ينبغي التمييزَ بينهما.
الأولى: رُكْنِيَة الفاتحة، ولا بحثَ فيها عن المقتدي، فهي ركنٌ عند من ذهب إليه سواء كان في حقِّ الإِمام، أو المنفرد، أو المقتدي أيضًا، والجمهور فيها مع الشافعية. والثانية: مسألة قراءة المقتدي، فذهب أبو حنيفة وأحمد ومالك رحمهم الله تعالى إلى عدم وجوبها في الجهرية، وهو قول القديم للشافعيِّ، ثم اختار القراءة فيهما حين وَرَدَ بمصر قبل وفاته بسنتين. ثم لا أدري هل اختار في الجهرية الوجوب أيضًا، كما يقول به الشافعية، أو الاستحباب فقط. وكان ينبغي للشافعية رحمهم الله تعالى أن يُفْتُوا بقوله القديم، فإن الشافعيَّ رحمه الله تعالى بقي عليه إلى خمسين سنةً من عمره، ولم يَقُلْ بالقراءة في الجهرية إِلا في سنتين من عمره.
أمَّا في السرية، فقال مالك رحمه الله تعالى باستحبابها فيها، ومنع عنها في الجهرية. وبه قال أحمد رحمه الله تعالى، إِلا أنه أجاز بها في الجهرية إذا لم يَبْلُغْه صوتُ الإمام، ولم يذهب أحدٌ إلى وجوبها إلا الشافعيّ رحمه الله، تعالى. ففي الزَّيْلَعِي و «البناية»، قال أحمد رحمه الله تعالى: ما سمعنا أحدًا من أهل الإسلام يقول: إن الإِمامَ إِذا جَهَرَ بالقراءة، لا تُجْزِىءُ صلاة من لم يقرأ. اهـ. وهو في «المغني» لابن قُدَامة أيضًا: وقد كان عالمٌ حنبليٌّ قد اتْحَفَنِي بجزءٍ منه، وقد جاء اليوم مطبوعًا، إِلا أنه مملوءٌ من أغلاط الناسخين. وهذا الكتاب من الكُتُب الأربعة التي قال فيها عز الدين بن عبد السلام: أنها من كانت عنده كَفَتْهُ: «السنن الكبرى» للبيهقي، و «المُحَلَّى» لابن حَزْم، و «شرح السنة» للبغوي، و «المغني» لابن قُدَامة. وفي فتاوى الحافظ ابن تَيْمِيَة: بخلاف وجوبها في حال الجهر، فإنه شاذٌّ، حتى نَقَل أحمد رحمه الله تعالى: الإجماع على خلافه. اهـ.
وكفاك كلام أحمد رحمه الله تعالى بهذا الإشباع، ونَقْلُ ابن تَيْمِيَة الإجماع عنه يَدُلُّ على أن وجوبَ القراءة في الجهرية خلاف الإجماع، أو لم يذهب إليه أحدٌ من أهل الإسلام. وأمَّا الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فالمحقَّق عندي من مذهبه: أنه حَجَرَ عن القراءة في الجهرية، وأجاز بها في السِّرية، كما نَقَله صاحب «الهداية» عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى، وإن أنكره الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى، حيث قال: لم أجده في «الموطأ» وكتاب «الآثار».
قلت: والصواب ما ذكره صاحب «الهداية» فإن تَنَاقُل المشايخ بروايةٍ يكفي لثبوتها، ولا يُشْتَرط أن تكون مكتوبةً في الأوراق أيضًا، فقد تكون روايته عن إمامٍ، وتُنْقَلُ على الألسنة، ولا توجد في الكُتُب (١). واختار ابن الهُمَام رحمه الله الكراهةَ تحريمًا مطلقًا. وإنما تَنَحَّيْتُ عنه
(١) قلتُ: ونظيره ما ذكروه في الفرق بين التحديث، والمُقَاولة، والمُذَاكرة. فإن ما يُؤْخَذُ عن المشايخ بالمُذَاكرة ربما لا يُوجَد عند أكثر تلامذته، بخلاف ما كان في مجلس التحديث، أو الإخبار. ومع ذلك يُعَبِّرُ به في الجملة، مع أن حال روايات الحديث ليس كالرواية عن الأئمة، أو المشايخ. فاعلمه.