للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لمكان الاختلاف في نقل مذهبنا. وراجع له رسالتي «فصل الخطاب في مسألة أمِّ الكتاب».

هذا ما سمعتَ حالَ الأئمة، أمَّا حال الصحابة رضي الله عنهم، فالذي يَظْهَرُ بالمراجعة إلى الآثار خصوصًا، لا بإجمال من اختار جانبًا، ثم ذهب يَسْتَرْسِلُ في نقل العمل: أنه ذهب بعضُ السلف إلى تركها رأسًا، وبعضُهم إلى تركها في الجهرية، وبعضُهم إلى إجازتها في الجهرية مرةً، وتركها مرةً كعمر، وأبي هريرة رضي الله عنهما، وبعضُهم إلى استحبابها فيها مؤكدًا كعُبَادة، وبعضُهم إلى قراءتها في السَّكَتَات، وأقلُ قليل إلى إيجابها، أو تأكُّدِها في الجهرية على كل حالٍ، كمكحول عند أبي داود.

والحاصل: أن من كان يقرأ في الجهرية: أَقلُ قليلٍ، والذي كان يقرأ في سَكَتَاتها: أكثرُ منه، والذي كان يقرأ في السرية دون الجهرية: أكثرُ كثيرٍ، وبعضُهم كان يقرأ في السرية حينًا، ويترك حينًا.

أما حالُ الأحاديث المرفوعة، فليس فيها ما يَدُلُّ على وجوبها على المقتدي، لا في الجهرية، ولا في السرية. وليس فيه عن الصحابة إلا ترجيح أحد جانبيها، ولم يبتدىء الشارعُ في تشريع القراءة للمقتدي بشيءٍ، لا بالفاتحة، ولا بالسورة، لا في السرية، ولا في الجهرية. وإنما ابتدأ بها بعضُهم فكَرِهَها، بل كان خالي الذهن عن قراءتهم، حتى خالَجه بعضٌ منهم، فُعُلِمَ الآن أن فيهم قارئًا أيضًا.

وكذلك لا يُعْلَمُ من حال المقتدين أنهم كانوا يهتمُّون بالفاتحة أَزْيَد من سائر السور، ولكن من كان يقرأ منهم يقرأ ما بدا له، حتى جاء رجلٌ فقرأ بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الَاعْلَى}، وبعضهم قرأ التشُّهد أيضًا، فلا يُعْلَمُ اعتناؤهم بالفاتحة، كما راه الشافعية. وإنما كان من يَقْرَأُ منهم يما يقرأ من عند نفسه بدون أمر من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولولا هناك مُنَازَعٌ لَخَفِيَتْ عِنْد قراءةُ من قرأ إلى ما بعده أيضًا، ولكن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لَمَّا سألهم، فقال بعضُهم: لا، وقال بعضُهم: نعم، واعتذر بعضُهم عن قراءته، فقال هذا يا رسول الله، كما عند أبي داود. كأنه يَعْتَذِر أنه إن لم يَفُتْهُ الاستماع، أباح لهم إباحةً مَرْجُوحَةً، فقال: «إن كنتم لا بُدَّ فاعلين، فلا تفعلوا إِلا بأمِّ القرآن». فعلى الشافعية أن يَشْكُرُوا لهذا المُنَازع حيث أخرج لهم الإباحةَ المَرْجُوحَةَ من أجله.

أمَّا الوجوب، فأين هو؟ وهل تكون شاكلةُ الوجوب أن لا يكون الشارعُ نفسه بخِبْرَةٍ منه، حتى إذا عَلِمَه جعل يسأل عنه ويفتِّشه، بل السؤال عمَّا لا يَعْلَمُ استنكارٌ له قطعًا، فلم يَأْمُرْ بها صراحةً، ولكنه استثناها عن النهيِّ. وهل يُفِيدُ هذا النوع من الاستثناء غير الإباحة. فإن راعيت صحة قوله: «إن كنتم لا بد فاعلين ... » إلخ لا تَخْرُجُ منه الإباحةُ أيضًا إِلا إباحةً مَرْجُوحَةً، وتِلك الإباحة أيضًا ارتفعت كما يُعْلَمُ مما في «السنن»، فانتهى الناس عن القراءة فيما جَهَرَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فَتَرَكَ القراءةَ فقهاؤُهم، وبقي بعضُهم يقرؤون بعد أيضًا. ولذا قلتُ: إن القارئين في الجهرية كانوا أقل قليلٍ.

ثم ههنا سِرٌّ، وهو: أن النهيَّ عمَّا يكون خيرًا مَحْضًا لا يمكن إِلا من صاحب الوحي، فعن علي رضي الله تعالى عنه: «أن رجلا صلَّى بالمُصَلَّى تطوُّعًا، فقال له الناس: أَلا تَمْنَعُ هَذا يُصَلِّي؟ قال: ما رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يُصَلِّي، ولكن لا أمنعه مخافةَ أن الْحَقَ بمن نَعَى عليه القرآن،

<<  <  ج: ص:  >  >>