للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فقال: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠)} [العلق: ٩ - ١٠] الآية.

ومن هذا الباب: اختلافهم في الأوقات المكروهة، فمنهم من نَهَى عن الصلوات فيها، نظرًا إلى كراهة تلك الأوقات، ومنهم من تَلَكَّأ عن النهيِّ، فأجاز بها فإنها خيرُ موضوعٍ أينما كانت، ومتى كانت، فلم يتقدَّموا إلى الحَجْر عنها. وكذلك القرآن خيرٌ كلُّه والحَجْر عنه موضع تَأْمُّل، فلمَّا قرؤوا به من عند أنفسهم بدون سابقية عهدٍ منه، لم يَرْضَ به، وأَظْهَرَ الكراهة أيضًا. ومع ذلك لم يَنْهَ عنه ما دام أمكن تحمُّله، كحضور النساء في الجماعات، لم يُرَغِّبْهُنَّ فيها أصلا، ولكن مع هذا لم يَنْهَ عنها أيضًا.

وهذا الذي راعاه عمر رضي الله تعالى عنه، حيث كانت زوجته تختلف إلى المساجد في أوقات الصلوات، وكان يُعْجِبُه أن لا تفعل ذلك، فأبت إِلا أَن تَفْعَلَه، ولم يَقْدِر عمر أن ينهاها صراحةً، فجاء يومًا مُتَنَكِّرًا هيئته، ووضع القدم على ذيل مِرْطها، وكانت تذهب لصلاة الصبح بَغَلَسٍ، فاسترجعت وانكفأت، وقالت: ما قال عمر - رضي الله تعالى عنه - حقٌ، فإنَّه فَسَدَ الزمان اليوم. فالقراءة في الجهرية عندي كحُضُورِهِنَّ الجماعات، والإباحة فيهما بمنزلةٍ واحدةٍ، فمن شاء فليتركها على حالها، ومن شاء بالغ فيها. ويَقْرُبه ما نُقِلَ عن الحلواني من فتواه: أنه لا ينبغي أن يُنْهَى العوام عن الصلوات وأن صلُّوها في الأوقات المكروهة، فإنها وإن كُرِهَت على مذهبنا، لكنها تكون جائزةً على مذهب الشافعية، ولو مُنِعُوا عنها أمكن أن يَمْتَنِعُوا عن أصلها، ويتركوها رأسًا.

قلتُ: وهذا التهاونُ لم يكن في زمن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فكان المناسب له أن يَنْهَى عنها كما قد نهى. ثم لمّا ظهرت المذاهب، وفشا التكاسُل في الدين، وتُرِكَ العمل به على المذهب، ناسب للمتأخِّرِين أن لا يمنعوهم عنها لأجل المخافة المذكورة.

والحاصل: أن النهيَّ عن الخير المحض لا يكون إلا إذا لم يتحمَّله المقام أصلا، وذلك أيضًا من جهة الشارع لا غير، كما نهى عن القراءة في الركوع والسجود، لأنه مناجاةٌ، وهذه الهيئة لا تَصْلُح لها أصلا. ومع ذلك جوَّزه البخاريُّ فيهما، وترك حديث مسلم. فإن شئتَ قلتَ: إنه أجاز بها للمقتدي إجازةً مَرْجُوحَةً، ولم يرض بها. وإن شئتَ قلتَ: إنها رخصةٌ لا عزيمةٌ، وهذا أَيْسَرَ على الموجبين.

وأجاب القائلون بالوجوب: إن سؤاله صلى الله عليه وسلّم «لعلَّكم تَقْرَؤُن خلف إمامكم». كما في «السُّنن»، ليس عن نفس القراءة، بل عن الجهر بها، فمعناه: لعلَّكم تَجْهَرُون بها خلف إمامكم. قلتُ: وهو تأويلٌ لا مُسْكَةَ له في ذخيرة النقل، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم سألهم عن نفس القراءة، وهم يَحْمِلُونه على الجهر بالقراءة، وهل يَلْصَقُ بالقلب أن يكون هناك أحدٌ يَجْهَرُ بها، مع رؤيته أن الصحابةَ رضي الله عنهم كلَّهم ساكتون، ولا يَجْهَرُونَ بشيءٍ. ثم لو سلَّمنا أنه كان جَهَرَ بها، فلم يَرِدْ السؤالُ عنه ولا عليه، بل هو عن القراءة، وإنما الجهرُ وسيلةٌ لعلمه صلى الله عليه وسلّم أنه قرأ شيئًا. واحتال فيه آخرون: إن السؤالَ إنما هو بما زاد على الفاتحة دون الفاتحة نفسها، فمعناه: لعلَّكم تَقْرَؤُن خلف إمامكم ما زاد على الفاتحة أيضًا.

قلت: وهذا أيضًا باطلٌ. ففي الدَّارَقُطْنِي: «هل منكم من أحدٍ يقرأ شيئًا من القرآن»،

<<  <  ج: ص:  >  >>