للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فتلك قد عرفها الموجِبُون لا غير، كيف وإنه يَسْتَلْزِمُ قلب موضوع الإمامة؟ نعم لا بأس به عندهم، فإنهم يَلْتَزِمُون فوق ذلك من اختلاف نية الإمام والمأموم، وصحة صلاته مع فساد صلاة الإمام، إلى غير ذلك من التوسُّعات في مسائل القُدْوَة كما قد عَلِمْت. وقال قائلٌ: يقرأها بعد الثناء، وقال آخر: بعد قراءة الإمام.

وكل ذلك التشويش، لأن الشريعةَ لم توسِّع له في الحلقة، ولذلك يَطْلُب هذا موضعًا لها، ولا يجده، ثم تَشْمِئزُّ إليه نفسه، لأنه لا صلاةَ إِلا بها، فيضْطَرُّ تارةً بوضعها ههنا، وتارةً ههنا. وهل هذا هو شاكلة الواجب الذي يتكَّرر في كل صلاةٍ أربع مرات؟ ثم لم يَثْبُت له نظمٌ ولا يَسْتَقِرُّ فيه رأيٌ؛ فذقه. وهذا الذي كنتُ أقول فيما مرَّ: إِنَّا لو سلَّمنا الرفعَ عند الرفع من الركوع، فما تكون له صورة العمل؟ فإن الرفعَ عند الرفع من الرُّكُوعُ مُتَعِسِّرٌ أو مُتَعَذِّرٌ، ولذا قلتُ: إن بناء الشرع ليس على الفاتحة، ولا على رفع اليدين. وهذا الذي كنتُ أَقْصِدُ من الاختلال، وعدم التأصيل والتفريع. وقد فَرَغْتُ من مسألة القراءة خلف الإِمام بقدر ما قَصَدْتُ إلقاءه في هذا الكتاب. ومن شاء الاطلاع على تفاصيلها، فليرجع إلى رسالتنا «فصل الخطاب» (١).


(١) يقول العبدُ الضعيفُ: وقد بَسَطَ الشيخُ رحمه الله تعالى هذه المسألة في رسالته "فصل الخطاب"، وقد أطال الكلامَ في تحقيق لفظ: "فصاعدًا"، وأسهب. فأردت أن أُلَخصَ لك شيئا منه، لعلَّ الله ينفع به أحدًا. ثم لا أَثِقُ بنفسي أن أكونَ فهمته تمامًا، إلا أني أردتُ به تمشية للمقام، فإن ما لا يُدْرَكُ كلَّه لا يُتْرَكُ كلَّه، فعليك بالأصل ليظهَرَ لك الجدُّ من الهزل.
فاعلم أن لفظ: "فصاعدًا" يختلف معناه في الإثبات والنفي، وكذا في الخبر والإنشاء. أَمَّا إذا كان في الإثبات، فهو لانسحاب حكم ما قبله على ما بعده: إن وجوبًا فوجوبًا، وإن غيره فغيره. وليس لإيجاب ما قبله، وللتخيير فيما بعده، كما فُهِمَ أنه على شاكلة: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا"، بمعنى وجوب القطع على الربع، سواء تحقَّق فصاعدًا أولًا، فإن أئمة العربية قاطبة لا يَعْرِفون ذلك، بل أتْفَقوا كلهم على أن الحكمَ فيما قبله وفيما بعده على السواء. وليست الفاء في المثال المذكور لإفادة أن المدارَ هو الربع، بل كما أن الربعَ مُؤَثر، كذلك الثلث والنصف أيضًا مُؤَثر، نعم، قد يُفِيدُ التقسيم على أبعاض الشيء، كقوله: بعه بدرهم فصاعدًا على معنى أن أمرَ البيع مُتَنَاوِلٌ لِمَا قبله ولِمَا بعده على السواء، ولكن يكون فيه التقسيم على الأبعاض: أي بع بعضَه بدرهم وبعضَه بأزيد من درهم.
ومن ههنا يُتَوَهم فيه التخيير مع أن الحكمَ عليهما على السواء، ولكن الزيادة في البعض لما كانت مُخَيرة، توِهمَ التخيير في نفس الحكم. هذا في الإثبات، أما إن كان في النفي، فهو للانتفاء رأسًا، وحينئذٍ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، فصاعدًا" يَدُل على وجوب السورة أيضًا، فإن الحكمَ على ما قبله لما كان بالإيجاب، وَجَبَ أن يَنْسَحِبَ على ما بعده أيضًا، فَيَدُلَّ على وجوب السورة والفاتحة جميعًا، ولذا لم يَقْدِر البخاريُّ رحمه الله تعالى على التفرقة بينهما في "صحيحه"، فبوَّب على نفس القراءة تَترَى، ولم يتكلم بالفاتحة، وذلك لعدم عدَّة الاستدلال عنده. وتصدَّى في الخارج على تضعيف تلك الزيادة، فإنه أحسَّ أنه يَدل على خلاف مرامه.
واستشعره الطِيبيُّ، وهو أقعد بالعربية، فصرَّح في "شرح المشكاة" بعكس ما قُلْنا. وقال: إذا لم نَقل بوجوب الزائد: أي السورة، كيف نَقُول بوجوب الفاتحة من هذا الحديث بعينه؟ لأنه عَلِمَ أن الحكمَ فيما بعده وما قبله على السواء، فلا يصحُّ التفريق فيه: بجعل الفاتحة ركنًا، والسورة سنة. وكان من صرف جُهْدَه في إثبات ركنية الفاتحة، لم تَبقَ له هِمَّة وجُهدٌ في السورة إلَّا بالسنية، نعم، لكل شِرَة فَترَة. أمَّا أنا، فلا أجد فرقًا بينهما إلَّا أن الفاتحة واجبة عينًا، والسورةَ بدلًا، وما عداه فشطط. =

<<  <  ج: ص:  >  >>