للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

"فصاعدًا" وحاصِلُهُ انتفاءُ الصلاة بانتفاءِ القراءةِ مطلقًا. فلا يصلُح هذا الحديثُ أن يقومَ حجةً على مسألة الرُّكْنِيةِ أَصْلا، لدلالتها على انتفاءِ الصلاةِ بانتفاء القراءة، وقد قلنا به أيضًا. وإنما الكلامُ في انتفاء الصلاةِ بانتفاء الفاتحة خاصة، ولم يدلَّ عليه أصلا، بل متى ما تنظر في الأحاديث ترى أنَّها جعلتِ الصلاةَ عند انتفاءِ القراءةِ بالفاتحة خِدَاجًا لا منفية عن أصلها، كحديث أبي هريرة عند مسلم "مَنْ صَلَّى صلاةً ولم يقرأ فيها بأمِّ القرآنِ فهي خِدَاجٌ".

ومتى نُفَتِ الصلاة، فهو باعتبار انتفاء الفاتحة فما فوقها. وأرى أن هذا يُطْرَد فيما هو على اسم الصحيح أو الحسن، وكفى بهما عن الضِّعَاف. وأرى أن هذا ليس اتفاقًا أو جِزَافًا، بل حكايةٌ عن الواقع وعن الحقيقة. فالصلاةُ بترك الفاتحة خِدَاجٌ، وبترك الفاتحة فما فوقها مَنْفِيَّةٌ، على أن في نفس قوله: «لا صلاةَ لمن لم يقرأ بأمِّ القرآن» بدون قوله: «فصاعدًا»، إشارةً إلى السورة، وبناءً للكلام عليه، وذلك للفرق بين قولهم: قرأها، وقرأ بها. وأَوْضَحَه الحافظُ بن القَيِّم في «بدائع الفوائد».

وحاصلُه: أن الفعل إذا عُدِّي بنفسه، فقلتَ: قرأتُ سورةَ كذا، اقتضى اقتصارُك عليها لتخصيصها بالذكر. وأمَّا إذا عُدِّي بالباء، فمعناه: لا صلاةَ لمن لم يأتِ بهذه السورة في قراءته، أو في صلاته، أو في جملة ما يقرأ به، وهذا لا يقتضي الاقتصارُ عليها، بل يُشْعِرُ بقراءة غيرها معها. اهـ. ثم أَطَالَ الكلامَ في نظائره وتقريره. وعلى هذا، فالفاتحةُ في الحديث تكون من جملة قراءته، فَيُدلُّ على القراءة بغيرها.

هذا، وبالجملة لا حُجَّةَ لهم في الحديث على مسألة الرُّكنية كما عَلِمْتَ، والله تعالى أعلم. ثم أقول: إن المسألةَ إذا كانت مما يَكْثُرُ وقوعها، ثم لا تَجِدُ للعمل بها صورةً ونظمًا عند الشارع، كان ذلك دليلا على عدم اعتبارها في نظره، فنقول: إن أحدًا لو أَدْرَكَ إمامه بعد قراءة الفاتحة، فلا يَخْلُو: إما أن يَقْرَأَ بالفاتحة، ويَشْتِغِلَ بها، لأنه لا صلاةَ لمن لم يقرأ بها. أو يُوَافِقَ إمامه بالتأمين، ثم يقرأ بها. فعلى الأول: يَرْزَمُ ترك الأمر بالموافقة، وعلى الثاني: تَنْقَلِبُ الوظيفة، فإن التأمين شُرِعَ عَقِيبَ الفاتحة لا قبلها (١).

فانتفاهُ التأصيل والتفريع، واختلالُ النظم، دليلٌ على أن المقتدي لم يُوَسَّع له في حلقة القراءة، ولذا تراهم اختلفوا، فقال قائلٌ: إن المقتدي يتبع سكتات الإِمام، ولا ينازِعُ معه. وإذن لا بدَّ للإمام أن يَسْكُت سكتةً تَسَعُ قراءته، وذلك أيضًا غير معهودٍ عنه صلى الله عليه وسلّم فإنه لم يَثْبُتْ عنه إِلا سكتةً للاستفتاح، والثانية للتأمين، أو ليترادَّ إليه نفسه. أمَّا السكتةُ الطويلة بحيث تَسَعُ الفاتحة،


(١) يقول العبدُ الضعيفُ: وكذا من أدْرَك إمامه في الرُّكوع، فإمَّا أن يقرأ بها في الركوع أو لا، فإن قرأ بها فقد خَالَفَ النصَّ، فإنه نهى عن القراءة في الركوع كما عَلِمْتَ، وإن لم يَقْرَأ بها، فكيف باحتساب تلك الركعة عنه بدون الفاتحة، مع أنه لا صلاةَ إلا بها، ولذا اضْطَرَّ البخاريُّ رحمه الله تعالى إلى الإنكار بإدراك تلك الركعة، لأنه فاتته الفاتحة، فلا يكون مُدْرِكًا لها، وإن أدْرَك ركوعها. وذلك خلاف تواترهم بإدراكها عند إدراك الركوع هكذا أحفظ عنه في الخارج، أو نحوه.

<<  <  ج: ص:  >  >>