دون المقتدي. فالحديثِ وَرَدَ في صلاة المنفرد، كما أقرَّ به أحمد وسُفْيَان رحمهما الله تعالى، وهم نَقَلُوه إلى صلاة الجماعة، وأنه جاء بالنظر إلى حاله في نفسه، وهم نقلوه في حاله مع غيره، فسبحان من لا يَسْهُو ولا يَنْسَى. ثم اعلم أنه ليس اعتبارُ الشريعة في قراءة المقتدي أنها ليست عليه، بل اعتبارُها أن قراءةَ الإمام له قراءة. وقد أَخْرَج له الشيخُ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى إسنادًا على شرط الشيخين من «المسند» لأحمد بن منيع، وهو مفقودٌ اليوم، فَرَاجَعْتُ له «المطالب العالية في زوائد الحديث الثمانية» للحافظ بن حَجَر رحمه الله تعالى، لأن الحافظَ رحمه الله تعالى قد جَمَعَه من ثمانية «مسانيد»، إلا أني لم أجده فيه، فَحَدَثَ في نفسي اضطرابٌ حتى عَلِمْتُ أن نسخةَ «المسند» المذكور لم تكن عند الحافظ رحمه الله تعالى بتمامها، فحينئذٍ زال القلق، وظَنَنتُ أنه يكون في الحصة التي لم تَبْلُغ الحافظُ رحمه الله تعالى.
ثم في حاشية الشيخ أبي الحسن السِّنْدِهي على «فتح القدير» المسماة «بالبدر المنير» - وهي إلى النكاح فقط: أن العلامة القاسم بن قُطْلُوبغا سأَلَ شَيْخَه ابنَ الهُمَام عن إسناد هذا الحديث. فكتب أنه أخذه من "إتحاف الخيرة بزوائد المسانيد العشرة" للبُوَصَيْري، وقد جمع فيه البوصيري عشرة مسانيد. ثُمَّ كتب الشيخ أن البُوصَيْري ذكر فيه أنه لما سرد هذا الإسناد عند الحافظ رحمه الله تعالى فلم يُتِمَّه. حتى أن الحافظ رحمه الله تعالى تَبَسَّم وقال: وفيه رائحة حديث "مَنْ كان له إمام" ... إلخ فتعجب مِنْ فَرْط ذكائه. ثم قال البُوصيري: فعلمت من تبسُّمه أنه ليس براضٍ عنه غير أنه لم يردَّه صراحةً أيضًا. وليس هذا تخصيصًا بل بابٌ مستقلٌّ ومسألة زائدةٌ في حقِّ المقتدي، كحديث:"البِكْر تُسْتأذنُ في نفسها وإِذْنُها صِمَاتُهَا". فليس قوله: وإِذْنُها صِمَاتُها" تخصيصًا بل وضعًا مستقلا. وعلى هذا فإيجابُ القراءةِ على المقتدي من العمومات، كاشتراط الإِذْن باللسان على البِكْر. ومعلوم أن الشريعةَ إذا أقامت لها بابًا مستقلا وأَفرزتها من الحُكْم العام، فليس لأحد أن يُجْرِها تحت العموم ويجري علهيا أحكامَها. فهكذا لَمَّا علمنا أن الشريعةَ نصبت لأحكام الائتمام بابًا مستقلا، ولغير الائتمام بابًا أيضًا. فَنَقْلُ أحاديثِ أحدِ البابين إلى الآخر إلغاءٌ لِغَرَضِها. فراجع أحاديث الائتمام: لم يأمر في واحدٍ منها المقتدي أن يقرأ مع إمامه، ولم يقل: وإذا قرأ فاقرؤوا، مع أنه مرَّ فيها على جملةِ أفعالِ الصلاة تقريبًا، فترك هذا الرُّكْن الذي قد سبق على سائر الأركان، وصار مدارًا لصحة الصلاة، وسِمَّةً لأهل الحديث مستعبدٌ جدًا، بل صحَّ فيها جملة: "إذا قرأ فأَنْصِتُوا" صحَّحه مسلم، وجمهور المالكية، والحنابلة. ولم يتأخَّر عن تصحيحه إلا مَنِ اختار القراءة خلفَ الإمام، فسرى فِقْهُه إلى الحديث. ثم اعرف الفرق بينَ سياقِ الاستثناء عن صريح النهي كما في قوله: "فلا تفعلوا إلا بأم القرآن"، وبينَ استثناءِ الفاتحة عن أمر الإنصات، أي أَنصتوا إلا بالفاتحة، ولم يَرِد في طريق. فجاء الشافعية وحملوا السياق الأوَّل على الثاني، مع أنه وَرَد في الحديث: "إذا قرأ فأنصتوا" ثم لم يَرِد فيه الاستثناء بالفاتحة. فدلَّ على أن الفاتحة وغيرَها في أَمْر الإنصات سواءٌ. والحاصل: أن لنا في هذه المسألةِ دلالاتٍ من الأحاديث، ونصَّا من القرآن:{إذا قُرىء القرآنُ فاسْتَمِعُوا له وأَنْصِتُوا} وليس عندهم لإيجابِ القراءة في الجهرية والسرية على المقتدي شيءٌ، إلا جَهْرهم بالمبالغات. ثم إنه صحت في هذا الحديثِ زيادة "فصاعدًا" أو ما قام مقامَها نحو: ما تيسر، وما زاد، وحينئذٍ يكون معناه انتفاءَ الصلاة بانتفاء الفاتحة مع عناية