للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

والدليل على ذلك: أني قد تتبعت لذلك نحوًا من مئة طريقٍ، فلم أجد حديث: «إذا أمَّنَ الإِمام ... » الخ إلا هذا القدر فقط، ولم أجده قطعةً من حديث الائتمام في شيءٍ من طُرُقه، بخلاف حديث: «إذا قال الإِمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ... إلخ، فإِنه قطعةٌ من حديثٍ طويلٍ في الائتمام، وفيه: «وإذا قرأ، فأنصتوا» سرده الراوي تارةً بتمامه، واقتصر على قطعة منه أخرى. فهذا الحديث هو الذي يَلِيقُ أن تُنَاط به مسألة التأمين، لأنه سِيقَ لبيان صفة الصلاة بتمامها، ووظيفة الاقتداء وما عليه من جهة ائتمامه بإمامه. ومع هذا لم يَذْكُر فيه تأمين الإِمام، بل ذَكَرَ من قوله القراءةَ ب: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} فقط.

فعُلِمَ أن الإِمامَ يُخْفِي به، بخلاف الحديث الثاني، فإِنه لم يجيء لهذا المعنى، والمقصود منه: بيان فضل التأمين فقط، وأَمَّا ذكر تأمين الإمام، فهو تمهيدٌ لبيان تأمين المأموم وموافقته إياه، وإذا كان الإحالة فيه على تأمين الإمام لهذا، لم تَبْقَ فيه دلالة على الجهر أصلا، وطاح ما كان يُتَبَادَرُ من قوله: «إذا أمَّنَ»: أن الإمامَ يَجْهَرُ به أيضًا، لأنه تبيَّنَ أن الإحالة على تأمينه لبيان موضع الالتقاء والتوافُق فقط، لا ليسمعه المقتدي، فَيُؤَمِّنُ عليه.

نعم لو وردت الإحالةُ عليه في أحاديث الائتمام، لكان فيه بناء على الجهر، كما في قوله: «إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}» بناء على جَهْرِه بذلك، لأنه في سياق التعليم ممَّا يقوله الإِمامُ والمأمومُ، ولا يمكن امتثاله للمأموم إِلا أن يَجْهَرَ به الإِمامُ، وإِلا فكيف يَعْلَمُ موضع تأمينه، وأنه متى يُؤَمِّنُ فلو كان فيه: «وإذا أَمَّن ... » إلخ، لدلَّ على جهر التأمين، كما دلَّ على جهر القول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ... إلخ. وإذن ما يَصِحُّ: أن ذكر تأمين الإمام لمجرَّدِ الارتباط تأمينٌ للمقتدي - وَتَعَذُّرِ الابتداء من قوله: «فَأَمِّنُوا»، فليس المقصودُ فيه تأمين الإمام.

وبعبارة أخرى: أن «إذا» في قوله: «إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ظرفية، والترتيب لبيان جزء فجزء، أي: إن تأمين المأموم مترتِّبٌ ومسبَّبٌ عن قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وليس تأمينهم مترتِّبًا على تأمينه، بل هما معًا. وأمَّا في قوله: «إذا أمَّنَ الإِمامُ، فأَمِّنُوا»، فإن شِئْتَ جعلتها شرطية أو ظرفية فيها تحت قوله تعالى: {إِذَا جَآء نَصْرُ اللَّهِ} وابن دقيق العيد في قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا»: بأن الفاء فيه للتعقيب أو المقارنة، ونقل فيهما الخلاف بالعكس، كما نقله أبو حيَّان. وعندي أنها لا تَنْسَلِخُ عن معنى التعقيب مطلقًا، إلا أن التعقيبَ عندي أعمُّ من الذاتي والزماني، واعتبر اللُّغَوِيُّون الذاتي أيضًا، فتدخلُ بين الشرط والجزاء، والعِلَّة والمَعْلُول، والفرق بين الشرطية والظرفية قد مرَّ، فتذكَّره.

فإن كان الأمر كما قرَّرت من تغايرُ، الحديثين، فالأسبقُ في الباب هم الحنفية رحمهم الله، لأنهم بنوا مذهبهم على الحديث الذي سِيقَ لذلك نصًّا، وهذا يَدُلُّ على أن الإمام لا يَجْهَرُ بالتأمين، بل وظيفته القراءة ب: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ... إلخ. ثم يُؤَمِّنُ أيضًا، لكن لا من حيث إمامته، بل لكونه مصليًا، فَيُؤَمِّنُ لنفسه سِرًّا، كما يُؤْمِّنُونَ لأنفسهم سِرًّا. ومن ههنا تبيَّن أن تأمينه لمَّا لم يكن من جهة الإمامة، بل من جهة لُحُوقه معهم وانفراده في نفسه، لم يَنْقَلِبْ

<<  <  ج: ص:  >  >>