الموضوع. فللإمام وظيفتان: وظيفةٌ من جهة إمامته، ووظيفةٌ من تلقاء كونه مصليًا. ويؤيِّدُ ذلك ما أخرجه النَّسائي في هذا الحديث:«فإِن الإمام يقولها»، فنبَّه على ثبوت تأمين الإمام على خلاف ما قال به المالكيةُ. ودلَّ على إسراره على خلاف ما قاله الشافعيةُ، لأن الإمامَ لو كان يَجْهَرُ بها، لَمَا كان للتنبيه على تأمينه معنىً، فإنه يسمعه كلُّ واحدٍ. ففي قوله:«فإن الإمامَ يقولها» تنبيهٌ على أن تأمينَه يكون سِرًّا، بحيث لو لم ينبِّه عليه لَمَا عَلِمَه المقتدون.
ثم إنه ليس في ذخيرة الحديث ما يَدُلُّ على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أمر المأمومين أن يَجْهَرُوا بها، بل من جَهَرَ منهم جَهَرَ برأيه. نعم في حديث وائل: أنهم جَهَرُوا بها، مع اختلاف فيه بين سُفْيَان وشُعْبَة. وأمَّا ما أعَلَّ به البخاريُّ حديث شُعْبَة، فقد أجابوا عنه بالنقولِ الصريحةِ، ويَظْهَرُ من «مسند أحمد» أنه توقَّف فيه، وهو الاعتدال. ومن العجائب أن هذه السنة مما تَعُمُّ به البَلْوَى، ثم لم تَصِلْ مرفوعةً إلى الحجازيين إلا من طريق وائل وعِدَادِه من أهل الكوفة. قال الدَّارقُطْني: قال أبو بكر: هذه سنةٌ تفرّد به أهلُ الكوفة. اهـ. ثم إن سلَّمنا أن اللفظ كما قال به شُعْبَة، فلا يزيدُ على كونه واقعةٌ وليس ضابطةً كُلِّيةً، ولا نُنْكِر ثبوت نفس الجهر بها ولو مرارًا، وهو جائزٌ عندنا أيضًا بدون كراهة. وإنما الكلام في السنية، ولا تَثْبُت إلا بالأمر من جهة الشارع واستمراره عليه، وليس بثابتٍ، ولن يَثْبُت إن شاء الله تعالى.
وبالجملة إذا لم يأتِ فيه شيءٌ من المرفوع، وهدى القرآن إلى سُنَّة الدعاء، فوضعناها على الرأس والعين، وَعَمِلْنَا بها. قال تعالى:{ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}[الأعراف: ٥٥] وقال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}[الأعراف: ٢٠٥]، فهذه سنة الدعاء، عَلِمْنَاها من القرآن، وتعلَّمناها منه، فلو عَلِمْنَا من حديثٍ مرفوع أنه أمر المقتدين بالجهر، أو استمرَّ عليه، لاتَّخَذْنَاه سنةً، ولرجَّحنا الخصوصَ على العموم، ولكن لَمَّا لم يُنْقَلْ فيه إلينا شيءٌ من المرفوع، إلا ما نُقِلَ عن أهل الكوفة، وهو واقعةٌ، عَملْنا بالعموم الواردة فيه.
فإن قلتَ: إن قوله: «إِذا أَمَّنَ الإمامُ أفاد الجهرَ إفادة قوله: «فأمِّنُوا» أيضًا، لكونه على شاكلةٍ واحدةٍ. قلتُ: كلا، وإلا لَزِمَ الجهرُ في جواب الأذان، والجهر بالتكبير والتحميد للمأموم في حديث الائتمام، لاتحاد الشاكلة هناك أيضًا. أَلا تَرَى إلى قوله:«إِذا كَبَّرَ، فَكَبِّرُوا ... » إلخ، لم يذهب هناك أحدٌ إلى أن القومَ أيضًا تَجْهَرُ به مع الإمام، فَقِسْ عليه قوله:«إِذا أمَّن، فأَمِّنُوا»، لا تجد بينهما فارقًا إن شاء الله تعالى، فلم يَخْلُصْ لهم في المرفوع لجهر القوم شيءٌ. نعم، لهم لجهر الإمام. قوله:«إذا أمّن الإمام ... » إلخ، وفيه أيضًا نظرٌ، لأنه يمكن أن يكون تعليقًا بأمرٍ معلومِ الوجود، لأن موضعَ تأمينه معلومٌ، فلا حاجةَ إلى أن يَجْهَرَ الإمامُ بها أيضًا. وفي التعليم كفايةٌ بل في قوله:«فإن الإمام يقولها» بناء على الإخفاء، فقوله:«إذا أمَّن» يستدعي وجوده فقط، لا جهره.
ثم إن ابن الهُمَام رحمه الله قال في «الفتح»: إن الحديثَ عبارةٌ في تأمين القوم، وإشارةٌ في تأمين الإمام. قلتُ: وهذا إنما يَصِحُّ على رأي صدر الشريعة، فإنه قال: إن المنطوقَ إن كان مقصودًا أصليًا، فهو عبارةٌ، وإلا فهو إشارةٌ، بخلاف الشيخ رحمه الله، فإنه صرَّح في