«التحرير»: أن المنطوقَ مطلقًا عبارةُ النص فلعلّه ذَهَلَ عَمَّا حَقَّق في «التحرير». ولعلَّك عَلِمْتَ منه: أن تمسُّك البخاري على جهر الإمام والمأموم لا يَصِحُّ من هذا الحديث. والذي يَخْطُر بالبال: أن المصنِّف رحمه الله حَمَلَ التأمين في الصلاة من باب تشميت العاطس وردّ السلام، ويشترط فيهما أن يكونَ بصوتٍ، يَبْلُع الحامد أو المُسَلِّم، فلا يمكن إحياء هذا الحق إلا بالجهر. فهكذا تأمينُ القوم إذا كان جوابًا لدعاء الإمام، وَجَبَ أن يكونَ بالجهر كردِّ السلام، وتشميت العاطس، فأُخِذَ منه جهر القوم بهذا الطريق، وللمانع فيه مجالٌ وسيع.
بقي الحديث الثالث، فأخرجه المصنِّف رحمه الله في الدعوات، لأنه فَهِمَ أن القاريء لا يَقْتَصِرُ في الصلاة، فيجوز أن يكون في الخارج وفي الصلاة، بخلاف الإمام، فإنه لا يكون إلا في الصلاة، فأخرجه في كتاب الصلاة، وأخرج لفظ القاريء في الدعوات. ومثل هذه الغوامض غير نادرةٍ في كتاب المصِّنف. ثم إنه لم يَتَنَقَّحْ عندي أنهما حديثان عند البخاريِّ، أو من باب الاختلاف في الألفاظ فقط، وهذا من دَأْبه: أنه إذا لم يتبيَّن عنده اختلاف الحديث من اختلاف الألفاظ، يُتَرْجِمُ عليهما تَبعًا للألفاظ. وعندي: هو حديث واحدٌ سِيْقَ لأحكام الصلاة دون الخارج. ثم لا أدري ماذا كان لفظ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم والحاكم في هذا الباب: هو الوِجْدَان لا غير (١).
بقي اختلاف سُفْيَان وَشُعْبَة في حديث وائل، فوجهُهُ عندي: أنه من باب حِفْظ كل ما لم يَحْفَظْهُ الآخر. والحديث يَسْقُطُ على مذهب الشافعية:«وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم جَهَرَ فيها بالتأمين دون جهر الفاتحة»، وهو مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله، فكان في تأمينه جَهْرٌ وَخَفْضٌ معًا؛ الجهرُ في نفسه، والخفضُ بالنسبة إلى الفاتحة. فما يرويه شُعْبَةُ أيضًا صحيحٌ، وما يُؤَدِّيه سُفْيَان أيضًا صحيحٌ، إلا أن كلاهما يُؤدِّيَان حصةً من المراد، فجهرُه أدَّاه سُفْيَان، وخفضُه بالنسبة إلى الفاتحة ذكره شُعْبَة، والأمران صحيحان، هذا هو الرأي عندي. والناس حَمَلُوه على الاختلاف، فاضْطَرَّ كلٌّ إلى إعلال ما عند الآخر، ولا حاجةً إليه عندي.
ومن العجائب: أن شُعْبَةَ قائلٌ بجهر آمين وسُفْيَان بإخفائه، كما ذكره ابن حَزْم. وحينئذٍ ماذا تَنْفَعُك رؤيته بالجهر إذا كان عَمَلَه بالإخفاء. والراوي إذا رَأَى بخلاف ما رَوَى، فانظر فيه ماذا تَرَى. وقد بَسَطْتُ الكلامَ فيه مع شواهده فيما ألقيت في درس الترمذي. وذكرت نبذةً منه في «كشف الستر»، فليراجعه من أواخره.
وبالجملة، قد تبيَّن لي بعد السَّبْر: أن بناء الشريعة ليس على الفاتحة خلف الإمام، ولا
(١) قلتُ: ولو كان لفظ القاري واقعًا في الصلاة، لدلَّ على أن القاري في نظر الشارع هو الإمام فقط، وليس كل منهم قارئًا على حياله، ففيه بناء على ترك الفاتحة ولا بُدَّ، نعم، لو كان الحديثُ محمولًا على الخارج، فليس فيه ذلك، ولكن الأظهر -والله تعالى أعلم- كما قال الشيخ رحمه الله تعالى، فإنه قال مرةً: إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ... إلخ، فأَثْبَتَ له القراءة، ثم سمَّاه قارئًا في اللفظ الثاني، فلا فرق في المُعَنْوَن والمعنى، وإذن بناؤهما على ترك الفاتحة إن شاء الله تعالى. هكذا نبَّه عليه الشيخ رحمه الله تعالى فيما أتذكر عنه.