للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وجملةُ المقال في هذا الباب أن هناك أمرين: واقعة سُلَيك، وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم.

أما واقعة سُلَيك فكما في الأحاديث: أنه دخل ورسولُ الله صلى الله عليه وسلّم يَخْطُبُ يومَ الجمعة، فقال: «أصليتَ»؟ قال: لا، قال: «قُمْ فَصَلِّ الركعتين» -مسلم-.

وأما القول فكما في «الصحيحين» بعده: «إذا جاء أحدُكُم يومَ الجمعة والإِمامُ يخطُبُ


= بالمعروف لاغيًا فيها، وذلك معلوم بالتواتر، وإذن نسألُك أن سنة سلَيك رضي الله عنه وما وقع في قِصْته من إمساك الخطبة ونزع الناس ثيابهم وصلاته بالركعتين كله يليق بزَمن التوسيع أو بزمن التضييق؟ ولا أراك شاكا في أنها أقرب بزمن التوسيع، فإِن نَزع الناس ثيابَهُم ونَبْذَهم إليه لا يليق بمجلس الاستماع. وأوْضَحُ منه ما عند مسلم: قال أبو رفاعة: "انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب قال: فقلت: يا رسول الله رجلٌ غريبٌ جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينُه! قال: فأقبل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتَرَك خطبَتَهُ حتى انتهى إلي فأتى بكرسيٍّ حَسِبت قوائمه حديدًا. قال: فقعد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعلَ يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبتَهُ فأتم آخِرَها". اهـ. فقوله: "فأتم آخرها" يدل على البِنَاءِ دون الاستئناف. والظاهر من سياق "مسلم" أنه قِصَّة يومِ الجمعة، فإِنه أخرجها في تضاعيف أحاديث خطبة الجمعة فالذي يظن أنها أيضًا قصة في الأَوائل، كقِصَّة سلَيك رضي الله عنه.
وبالجملة إذا عَلِمنا توسيعًا وتضييقًا في أَمرٍ واحدٍ بحسب زمانين، فما يروى فيه مِن التوسيعات كلها تحمَل على زمن التوسيع، وذلك معقول وإن عارَضَه مجادل. وهذا السبيل سلكناه في مواضعَ: منها في أَمر التسبيع مِن سؤر الكلب. ومنها: في رَفْع اليدين. ومنها: في الركعتين قبل المَغْرِب. ومنها: في الكلام في حديث ذي اليدين كل ذلك يليق بزمن التوسيع سواء سميته نسخًا، كما هو المشهور، أو قلتَ: إنه كان ثم اختتم، ولم تتكلم بلفظ النسخ كما هو ذوق شيخنا قدس سره إلا في حديث "ذي اليدين" ألا ترى ما أخرجه مالك في "موطئه" عن ثَعْلَبة بن أبي مالك القُرَظي أنه أخبرهم أنهم كانوا في زمن عمرَ بن الخطاب يصلُّون يومَ الجمعة حتى يخرج عمرُ بن الخطاب. فإذا خرج عمرُ رضي الله عنه وجلس على المنبر، وقام يخطُب أنصتنا فلم يتكلم منا أحَدٌ -قال ابن شِهاب: فخروج الإِمام يقطع الصلاةَ، وكلامُه يقطعُ الكلامَ. اهـ. مختصرًا فهذا نحوٌ من الإِجماع على أن مِن سُنَّة الخُطبة قَطْعَ الصلاة مطلقًا. ولا فرق فيها بين مَنْ كان داخلَ المسجدِ، أو دَخَله حين الخُطبة. والفرق بين الداخل والآتي إنما وجدَه مَنْ أراد أن يعملَ بهذا الإِجماع على أن مع العمل بسنَّة سُلَيك رضي الله عنه، فلما تعذَّر عليه الجَمْعُ بينهما قَصَر أحاديثَ الإِنصات على مَنْ كان داخِل المسجد، وجعل حديثَ سُلَيك فيمَن دخل بعد شروعِ الخطبة.
قلت: وهذا تطبيق بين الحدييثين من جانبه وحَسَب معتقَدِه في المسألة، فإِن كان يسع له أن يَحْمِله على ذكر فلخصمه أيضًا أن يحمله على ما وَجْه لا ينافي التواتر. والظاهر أن التأويل في قضية جزئية أيسرٌ من التأويل في أحاديث متواترة، وهَدم سُنة من السُّنن المختصةِ بالجمعةِ أَمْر من تَرْك سنةِ جزئية، لم يظهر لها مناسبة بالجمعةِ.
وبعد ذلك نقول: إنَّ الفرق بين الداخلِ والآتي إنما يليق إذا كان فيه معنى، وإذ ليس فليس لأنا، قد عَلِمنا أن الدعامة في تلك الأحاديث هي الإنصاتِ والاستماع. ولا شك أنَّ من اشتغل بالركعتين فقد أخلَّ في فريضة الاستماع سواء كان داخلًا في المسجدِ مِنْ قَبْلَ أو أتى فيه بعد شروعِها، فإن جاز للآتي أن يركَعَ ركعتين وإمامُهُ يَخْطُب، فللداخل القاعدِ أيضًا أن يركعهما، ولئن فرضنا اشتغالَ الطائفتين بالركعتين لا يكون مثل مَنْ خاطبهما إلا كَمَثَلِ مَنْ يخاطب مَنْ لا يلزمه الاستماع لحدِيثه.
وبالجملة إن كان الإخلال بالاستماع ممنوعًا، فذلك يستوي فيه الداخل والخارج، وإن لم يكن ممنوعًا فقد جاز للداخل أيضًا أن يركع ركعتين، وإذن لا يبقى لحديثِ الإنصات مصداقٌ، فإنه إذا جازَ تَرْك الإِنصات للداخل ومَنْ أتى الخطبة أيضًا، فكأنه ارتفع حُكم هذه الأحاديثِ رأسًا فتفكر وأما تقرير الثاني فكما ستعرِفه في صلب الكتاب.

<<  <  ج: ص:  >  >>