للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فليركع ركعتين وليتجوَّز فيهما». والتفضِّي عن القول مُشْكِل فإِنه تشريع، أما الواقعة فيمكنُ حَمْلُها على الأعذار، فمنها ما عند النِّسائي في «كبراه»: أنَّ هذا الرجلَ دخَل بِهيئةٍ رَثَّةٍ ولم تكن عليه ثيابٌ، فأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أن يتصدَّقَ عليه الناسُ فَرَعَّبهم فيه، فَأَمَرَه بالصلاة ليرى الناسُ هيأَته البذة فتصدقوا عليه. هكذا في «المسند»، و «صحيح ابن حِبَّان»، والطحاوي. وبَوَّب عليه النسائيُّ بالحَثِّ على الصدقة، إشارة إلى ما هو الأَهم في قِصَّته.

فإِن قلت (١): لو كان كما قلتم لَمَا أمره بالركعتين في الجمعة الأخرى، وفي التي بعدَها أَيضًا، فهل كان يريد الإِراءة كلَّ مرة؟ وإِذن لا يكون المقصودُ إلا تَحْرِيضَه على تحية المسجد، والتصدُّق عليه يكون تَبَعًا. قلتُ: وفي الجمعة الثالثة تَرَدَّدَ الراوي. ولا بُعْد في الجُمُعتين أن يكون أَمْرُه لذلك، وعند ابن حِبَّان فيه زيادة وهي: «لا تَعُودن لِمِثْل هذا». اهـ. فحملوها على النَّهي عن تَرْك هاتين الركعتين. قلتُ: بل نَهْيُّ عن الإِبطاءِ عن الجمعة وحُضُوره في وقت الخطبة حنى لزِمه إمساكُها، فهو كقوله لأبي بَكْرة رضي الله عنه حين بادر إلى إِدْرَاك الرُّكوع: «زادك اللَّهُ حِرْصًا ولا تَعُد». وقد اختلفوا في شَرْحه أيضًا كما مرّ.

ثم عند مسلم - ص ٢٨٧ - أَنه جاء ورسولُ الله صلى الله عليه وسلّم قاعِدٌ على المِنْبر، فدلَّ على أنه لم يكن دَخَل في الخُطبة بَعْدُ، بل كان يريدْ الخطبة سيما على مذهب الشافعية، فإِن القِيام من شرائط الخطبة عندهم. فلزِمهم أن يقولوا إِنَّه لم يكن دَخَل في الخطبة.

وتمسك الشيخ العيني رحمه الله تعالى برواية النسائي، وليس فيه ما رامه فلا يتم التقريب،


(١) قال الشيخ رحمه الله تعالى: والوَجْه أن التحريضَ على الصَّدقة وقَعَ في الجمعتين إلا أنه كان التحريضُ في الجُمعة الأُولى لأجله خاصَّة، وفي الجمعة الأُخرى كان لرجلٍ آخر. فلما حَرض النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الصَّدقة، نَبَذ هذا الرجلُ أيضًا أحدَ ثَوْبيه اللذين كان أعطيهما في الجُمعةِ الماضية. فردَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثوبَه ولامه على تَصَدُّقِه. فإِن خيرَ الصدقة ما كانت عن ظَهْرِ غَنِي هذا ما سمعناه منه في درس الترمذي. قلتُ: يَرد على الشافعية أن هذا الرَّجُل لما جاء في الجمعة الأولى قعد، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قُم فاركع". هكذا عند "مُسلم". فأجابوا عنه أنه كان جاهلًا عن المسألةِ، والجهل عندهم عُذْرٌ، فصحَّت له تحيةُ المسجد بعد الجلوس أيضًا. ثُم ورد عليهم تكرُّر القصة، فإِنَّه إن كان جاهلًا في أول مرةٍ فقد عَلِمهما بعد تعليمه وحينئذٍ كيف جلس في الجمعة الثانية أو الثالثة أيضًا؟، فأجابوا أنه نسي والناسي عندهم كالجاهل، والغرضُ منه أن قِصة التكرُّر ترِدُ علينا وعليهم لا أنَّا منفردون فيه.
ثم جوابُنَا في تأويلها أَوْجَهُ من جوابهم، فإنك تعلمُ أن عُذر النسيان مما يحتاج إلى دليل، وهلا يقال: إنها كانت سنةً قَبلِية للجمعة، فإِن السؤال والجواب إنما يناسِبُ عنها، فإنها آكَدُ من تحية المسجد التي لا تزيد على الاستحباب مع أنها لا تفوتُ بالجلوس مع تأييده بِلَفظ قبل أن تجيء، بل أقول: إنَّ سؤاله - صلى الله عليه وسلم - بعدما جاء الرجلُ وقَعَد بين يديه لا يكون إلا عن صَلاتِهِ قبل المجيء، ولا يناسب عن الصلاة قبل القعود، فإِنه كان بمرأى عينيه، وقد شاهده أنه لم يَزِد على أنه قد جاء وقَعَد. وحينئذٍ لا يلائمهُ السؤالُ بأنك ركعتَ ركعتين قبل أن تَجْلِس، بل سؤاله إنما يليقُ به: أنك هل صليت قبل أن تجيء إلى المسجد؟ ففيه تأييدٌ للفظ ابن ماجه. لأن صلاتَه كانت سُنَّة قَبليَّة لا تحية المسجد إلا أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَرَه حتى جاء الرَّجُل وقعد، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما قال. قلت: كيف ولم يكن المسجدُ مُتَسِعًا كذلك ولم يكن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دَخل في الخطبة على لَفْظ "مسلم".

<<  <  ج: ص:  >  >>