للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

نحو مئة موضع ونَيِّف، وكلها في الأسانيد إلا هذا الحديث فإِنه تَكلم فيه في المتن. وقال: إن أَصْلَه «واقعة» جعَلَه الراوي «ضابطة». فالصواب أنه مُدْرَج من الرَّاوي.

قلتُ: ويؤُيده صنيعُ البخاريّ، فإِنه أخرج هذا القول مِرارًا ثُمَّ يُترجِم عليه بهذه المسألةِ مع أنه اختارها، فلو كان القول هو الأصل عنده لأَخرجه البتة لكونه صريحًا فيما ذهب إليه، لكنه لم يُخَرِّجه في أبواب الجمعة، وتمسك به في مسألة أخرى، وهي مثنوية الصلاة مع أن لها أحاديثَ أخرى أصرَحُ منه عنده، والذي سيق له الحديث هو الركعتان عند الخطبة. فَتَرْك التمسك منه على مسألةٍ مذكورة صراحةً والتمسُّك على مسألةٍ ضمنيةٍ دليلٌ واضحٌ على أنه لم يثبت عنده القولُ، ولكنه واقعةٌ كما قال الدارقطني.

وقد تحقق عندي أَن من عادة البخاري أن الحديث إذا كان صحيحًا عنده في نفسه، وتكون فيه مسألة لا يقوم هذا الحديثُ حجَةً عليه لأَمرٍ سَنَح له، لا يترجم على هذا الجزء وعلى هذه المسألة.

ثم أقول: إن السُّنَّة لو كانت جَرَت بهذا القول وإن الداخل في المسجد يصلِّي تحية المسجد، وإن خطب الإِمام، فلم أمسك النبيُّ صلى الله عليه وسلّم عن خطبته كما مرَّ عن الدارقطني، فإِذا نظرنا إلى فِعْله صلى الله عليه وسلّم أنه لم يكن دَخَل في الخطبة على لفظ مُسلم، أو دخلها ثُمّ أمسك عنها على ما عند الدارقطني عَلِمنا شَرْحَ قولِهِ من فِعْله صلى الله عليه وسلّم وهو أَنَّ المراد من قوله: «والإِمام يخطُبُ» أي كاد


= أَمَرَ الناسَ أن يقطعوا كلامَهم وصَلاتَهم لئلا يكونَ الإِمام خطيبًا لمن لا يستمعون لكلامِه. وهذا ظاهر وليس يدخل فيما قلنا إن الإِمساك كان للتحريض. فإن ذلكَ أيضا سببٌ، بل هو السبب. ولكنِّي أقول: إنَّ في إباحتِه للصلاة نظرا إلى سكوته عن الخطبة أيضا. فافهم ولا تُسرع في الرد والقبول. وقد سمعتُ بعضه من شيخي.
بقي القول، أي الحديث القولي فقط، فلم يخلص عن اضطراب، فإِن ألفاظَه تشعِر بأنه مأخوذٌ من أَلفاظ القصة لتقاربها من ألفاظ القصة جدًا. فإِذا كان نحو الدارقطني عَلله، ونحو البخاري أشار إليه، فلا أَقَل من أنه يورث شبهة في كونِه مَرويا بالمعنى. والحافظ رحمه الله تعالى وإنْ أخرج له متابِعًا فذلك وإن رَفَعَ التفردَ لكن احتمال الرواية بالمعنى قائم بَعد، ثم الشيخ رحمه الله تعالى عَدَل عن هذا الجواب لذلك، وذهب إلى أنه يروى بالشك: والإِمام يخطبُ تارة، أو قد خرج أخرى.
وظاهرٌ أن الإِمام إذا كان في إِبانِ الخروج يسع له أن يأتي بالركعتين، ويتجوز فيهما.
ثم إنك تعلم أن مسائلَ الأئمة تكون ملائمة ومتناسبة فيما بينهما، ولا تكون من باب الجَمْعِ بين الضب والنون فالشافعي رحمه الله تعالى لما خَفَّف أَمر الإِنصات في الخطبة، خفف الاستماع في الصلاة أيضا. وحينئذٍ ساغ يوسع بهاتين الركعتين أيضا، بخلاف الحنفية. فإِنهم ضَيَّقوا في تلك المواضع كلها، فلا يليق لهم التوسيعُ بهما ولا يأتي هذا على مسائلهم، وهو الملحَظ في اختيار صفة صلاة الخوف، فإِن الأحاديثَ صحَّت فيها على الوجوه كلها، لكن الحنفية اختاروا منها ما لا يخالفُ مَوضِعَ الإِمامة وإن احتاج إلى الحركات الكثيرة والشافعية لم يبالي بذلك فجوزوا تَقَدمَ فراغ المقتدي عن إمامه. فاختاروا صفة ناسبت مسائلهم. وهكذا صنيعُنا وصنيعُهم في مِثل هذه الأبواب. فليس هذا أول قارورةِ كسرت ليتعجب منه. ومن هذا الباب الفاتحة، ورَفْع اليدين في صلاة الجنازة فمن اختارهما في الصلاة المطلَقة اختارهما في صلاة الجنازة أيضًا كالشافعية ومَن تركهما في المُطلقَة تركهما في صلاة الجنازة أيضًا. فتلك سلسلة المسائل فتدبر وأمعن النظر فيه، والله تعالى أَعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>