واعلم أن القرآن لم يتعرض إلى بيان صفةِ صلاةٍ من الصلوات إلا صلاةَ الخوف، فقد تعرَّضَ إلى بيان صفتها شيئًا. وأما سائر الصلوات فاكتفى بِذِكْر أجزائها فقال:{وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ}[البقرة: ٢٣٨]، وقال:{واركَعُوا واسْجُدُوا}[الحج: ٧٧] وقال: {فَسَبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ}[طه: ١٣٠] وقال: {ورتِّل القآرن ترتيلا}[المزمّل: ٤] وقال: {إِنَّ قُرْءانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء: ٧٨].
فذكرَ القيامَ والركوعَ، والسجودَ، والقراءة، والتسبيح، ولم يذكرِ لها صفةً. ولَعلَّك عَلِمت أني لا أقول بالمجاز في تلك الآيات: من إطلاق الجُزْء على الكلّ، ولا أقولُ إن المرادَ من الركوع هو الصلاة مثلا، بل المرادُ من الركوع هو الركوعُ نَفْسُه. لكن ما يتحققُ منه في ضِمن الصلاة، فالمأمورُ به هو هذه الأجزاءُ في ضمن الصلاة. وفائدة ذِكْرِهَا كذلك التنبيهُ على أهمِّ أَجزاء الصلاة.
الفائدة الخامسة: في بيان أنها نزلت في قَصْر العدد أو في الصفة: واعلم أنهم أطالوا الكلام في تحقيق أنها نزلت في قَصْر العدد أو الصفة؟ أعني بِقَصْر العدد قَصْرَ الركعات، وهو في السَّفَر، وبِقَصْر الصفة قَصْرَ الجماعة، وهو في صلاة الخوف. وذلك لِعدم إدراكِ كلِّ طائفةٍ الجماعة بتمامها، فلهذه ركعةٌ ولهذه ركعة. وسمَّاه ابنُ القيِّم قَصْر الهيئة. وإنما اختلفوا فيه لأن قوله بَعْد:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}[النساء: ١٠١] يشيرُ إلى أن القَصْر رخصةُ تَرْفيه لا رُخْصَةُ إِسقاط، حيثُ نَفَى الجُناح عن القَصْر فيجوز القَصْرُ وتَرْكُه، وحينئذٍ لو قلنا: إن الآية في قَصْر العدد قَوِي مذهبُ الشافعية، وإن قلنا إنها في قَصْر الصِّفة أو قَصْر الهيئة خرج عَمَّا نحن فيه، قيل: وهو الأرجح لاتِّسَاقِ النَّظْم حينئذٍ، ولو حملناه على الأول لا يكونُ لقوله:{إِنْ خِفْتُمْ} مفهومٌ، فإنَّ القَصْر في السفر جائزٌ بدون الخوف إجماعًا.
والحاصل أنَّ الصُّوَر أربعٌ: الإِقامةُ مع الأَمْن وفيها الإِتمام إجماعًا. والسَّفَرُ مع الخوف وفيها القَصْر إجماعًا عددًا وصفةً. والسَّفَر مع الأَمْن ففيها الخلاف: قال الحنفية: إن القَصْر فيها حَتْمٌ. وقال الشافعية رحمهم الله تعالى: بل هو جائزٌ، والإِقامة مع الخوف ففيها قَصْر الصِّفة إجماعًا.
والذي عندي أنها نَزَلت في قَصْر الهيئة واستتبعت قَصْر العددِ أيضًا، لأن صلاة الخوف لا تكون إلا في حال السفر عادةً، فإذا كان المخاطبون في حال السَّفر وواجهَهُم العَدُوُّ نزلَتْ صلاةُ الخوف، فالمقصودُ منها بيانُ قَصْر الصِّفة، إلا أنه ذكَر فيها قَصْر العددِ لكونهم مسافرين إذ ذاك. وقد مرَّ معنا في أوائل الكتاب في تحقيق كون الحدود كفارةً أو زواجِرَ أَنَّ القرآنَ ربما يَنْزِلُ بشيءٍ ثم يُومىءُ إلى مورد نزوله أيضًا، فيتضمن الكلامُ بَعْضَ ما في المورد مع عُموم الحُكْم. وحينئذٍ اندفع عنه السؤالُ المشهور كما عند مسلم عن عمرَ رضي الله تعالى عنه:«أن الله تعالى شَرَعَ القَصْر في السَّفَر عند الخوف، ونحن آمِنون الآن». - بالمعنى. وحاصل الدَّفْع أن الخوف ليس قيدًا لِقَصْر العدد، بل لأنَّ الآية نزلتْ في قصر الصِّفة، وهو مقيد بالخوف. أما القَصْر