للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عَمَّا قبلها كحالِ سائر المثنويات، وجاز أن تكون المثنوياتُ كُلُّهَا مفصولةً بسلام، وتلك موصولة بواحدة. وهذا معنى ما رواه ابن أبي شَيْبة - وصححه العِراقي - «صلاةُ المغربِ وِتْرِ صلاةِ النهار، فأوتروا صلاةَ الليل» لم يذهب فيه أحدٌ إلى أن صلاةَ المَغْرب أوترت النهايات كُلَّها. بل المعنى أنها خرجت من بينها وِتْرًا بنفسها، وإن اتصفت النارياتُ بالوِتْرية، فعلى طور صِفة الشَّيء بحال متعلَّقِه فليُقَس عليها حالُ الإيتار وظيفة الليل أيضًا. فليس معناه أن الواحدة جعلت مجموعَ صلاةِ الليل وِتْرًا. فحالها مع المَثْنَى الأخيرة والتي قبلها سواء، بل معناه أنها مع المَثْنَى الأخيرة خرجت وِتْرًا من بين سائر صلاة الليل.

والحاصل: أن النهاريات كما اختتمت بصلاةِ وِتْرٍ كذلك اختموا صلاةَ الليلِ بالوتر، وعلى الوتر - وبعبارةٍ أخرى - إن وِتْر النهار كما لم يكن مقومًا لسائر النهاريات، كذلك وتر الليل ليس مقومًا لسائر ركعات الليل ليكون تَعَلُّقُه بالجميع سواء، بل معناه أن آخِرَ النهاريات صلاةً وِتْرٌ كذلك فلتكن صلاةُ الليل وترًا، لتصير الوظيفتان - أي وظيفة الليل والنهار - على شاكلةٍ واحدة. وتتصف الوظيفتان بصفة الوترية فتجلبان معنى الأَحِبَّية، «إن اللَّهَ وِتْرُ يحِبُّ الوِتْر» فكان الإيتار لمعنىً والناسُ حملوه على معنىً. فافهم ولا تعجل لتنجلي لك حقيقةُ الحال. وإنما تكلمنا عليه الآن بحسَبَ أذواق العربية وإن كان الأَمُرُ يبتني على ما ثبت عنه في الخارج ولا يبنى ولا ينهدم من الألفاظ شيء. وقد بقي بَعْدُ خبايا في زوايا الكلام، وفيه كلام أطول من هذا، وليراجع له رسالتي «كَشْف السِّتر في مسألة الوِتْر» (١).


(١) واعلم أن الشيخ رحمه الله تعالى في عنفوان شبابه سئل عن قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في باب الوتر: "لا تُوتِروا بثلاث، أوتروا بخمسٍ" الحديث، بأنه دال على خلاف مذهب الحنفية صراحةٌ، فأجاب عنه بداهةً، ولما كان الاستفتاء بلسان الهند أجابه أيضًا كذلك، وكنت أخذْتُ نقله على دأبي القديم بما أُظْفَر من كلامه، فرجعت إليه عند ترتيب باب الوِتْر أيضًا فعجبت من فخامة معانيه، ودقَّة مبانيه مع وجازة الألفاظ، فأردتُ أن أزُفَّه إليك، وعندي رسالة أُخرى أيضًا من الشيخ رحمه الله تعالى تتعلق بمسألةِ الوِتر، لكنها طويلةٌ لا تناسب موضوع الكتاب، فأعَرِّبُ لك ما كتبه على الحديثِ المذكور فقط.
واعلم أن الحديث "لا توتروا بثلاث، أوتروا بخمس" الحديثَ، لعلَّه أخذ في الاستفتاء من "فتح الباري".
و"تلخيص الجسر"، و"نيل الأوطار"، وحَمَل على ما حَمَل عليه الحافظ حيث قال: والجمع بين هذا وبين ما تقدم من النهي عن التَّشَبُّه بصلاةِ المَغرب أن يُحْمَل النهيُ على صلاة الثلاث بتشهدين الخ. ولذا فهم أن جوابه على الحنفية فقط، مع أن ما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى من محمله بعيدٌ عن الصواب، لأن الحديث لم يَرِد في مسألة التشهد أصلًا بل في بيان العدد وليس فيه إلا النهي عن الاقتصار على الثلاث أنه لا بد أن تضم معها ركعتان فصاعدًا، وإذَن يكون مَحْمولًا على الأفضليةِ بالإِجماع. فإِن ضَمَّ الرِكعتين فما زاد على الوِتر ليس من الواجبات، وإِنما هو أَمْر استحبَّه الشرْع ويؤيدُه حديث: "لا توتروا بثلاث، أوتِروا بخمس، أو سَبْع، ولا تشبهوا بصلاةِ المغرب" اهـ. فإِن الحُكم في قوله: "لا تشبهوا" لا يزيد على الحُكم بقوله: "لا توتروا بثلاث"، بل الجملتانِ بمعنى واحدٍ، لا أن الجملةَ الأُولى في مسألة التشهد، والثانية في بيان العدد. فالثانية حَلت مَحَل العدد للأولى ومجموعُهما في بيانِ العدد لا غيرُ. والمعنى لا توتروا بثلاث، لأنه يستلزم التشبُّه بصلاةِ المغرب ويتعيْن هذا المرادُ صراحة مما رُوي: "لا توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب، ولكن أوتروا بخمس" الحديث. فإنه صريحٌ في أنَّ الحديثَ في بيان العدد دون التشهد. وهذا الحديثُ محمول على الأفضلية بالإجماع كما قلنا. والمرادُ من الإِجماع =

<<  <  ج: ص:  >  >>