للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

كان من عادته، حتى إنه كان يتكلم بين الركعة والركعتين أيضًا، فهو لكمالِ الانفصال. وقد استدلَّ صاحبُ «الْمُغْني» على كونها للترقيِّ من قول الشاعر:

*وكان امرؤٌ من جُنْدِ إبليس فارتقى ... به الحالُ حتى صار إبليسُ من جُنْدِهِ

قلتُ: ولعل «حتى للتَرَقِّي» هي «حتى العاطفة» للغاية كما في قولهم: مرض فلانٌ حتى لا يرجونه، ومات الناسُ حتى الأنبياءُ، ومن جزئياته حتى للتَرَّقي فاخترعوا لها اسمًا على حِدة، وشرطوا لها شرائِطَ، ولذا احتاجوا إلى إثباتها. ولو قالوا: إنها هي العاطفة، وقد تفيد الترَّقي أيضًا لما احتاجوا إلى تَجَشُّمِ الاستدلال، ولا وجه لإنكارها، وكيفما كان ثبتَ السَّلامُ عن ابن عمر رضي الله عنه في الوسط.

قلتُ: ويَرْوي هذا الحديثَ آخَرُون أيضًا، ومذهبهم أن الوِتْر ثلاثٌ بسلام واحدٍ، فعلم أن الحديثِ ليسَ نصًّا في الفصل، إنما هو اجتهادُهُ ثم إن مذهبَهُ نَقَضَ الوِتْر أيضًا، فهلاّ اختاروه أيضًا مع أنه لم يذهب إليه من الفقهاءِ الأربعةِ أحدٌ.

وفي قيام الليل ما يدل على أنه كان يفعلُ ذلك من رَأَيه، وليس فيه عنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم شيءٌ. وهكذا لم يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الكلامُ أيضًا قط، فهو أيضًا من اجتهاده، ثم إِنَّ ظاهر هذا التعبيرِ الكلامُ بعد الركعة قبل الركعتين، ولم يختره الشافعيةُ رحمهم الله تعالى أيضًا. وقد يذهبُ وَهْلي إلى أنه يمكن أن يكون كلامُهُ هذا بين الركعة الأخيرة من الوِتْر وركعتي الفَجْر. وقد ثبت نَحْوُه عن عائشةَ رضي الله عنها وإن كان الظاهرُ منه ما اختاره الشافعية.

وليُعْلَم أن الحافظ رحمه الله بعد خَتْم باب التشهد نَبَّه على فائدة، وهي أنهم لم يختلفوا في ألفاظ التشهد الأول إلا ما رُوي في «مصنَّف» عبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يرى قولَهُ «السلام عليك أيها النبي» ... إلخ نَسْخًا للصلاة، ولفظه: «وكان ابن عمر رضي الله عنه يرى التسليمَ في التشهد نَسْخَا في الصلاة». وصرَّح نافعٌ أن المرادَ به السلامُ عليك أيّها النبيُّ ... إلخ.

قلتُ: ورأيت هذه الروايةَ بعينها عن سالم، عن ابن عمرَ رضي الله عنه في «مصنِّف» ابن أبي شيبة أيضًا، ثم قال سالم: «أما أنا فَأُسلِّم». قلتُ: ومن ههنا عُلِم وَجْهُ اجتهادِ ابن عمرَ رضي الله عنه في الكلام بين الركعة والركعتين من الوِتْر. فإنَّه إذا كان يرى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلّم يسلم في تَشَهّدِه وكان عنده نَسْخَا للصلاة، حَمَله على الفصل وأنه فَرَغ من صلاته.

ثُمَّ عند مالك في «موطئه» عن ابن عمر رضي الله عنه: «أنه كان يقرأ بالسلام في تَشَهُّدهِ في صلاته»، وهذا يُوجِب أن لا تصح صلاتُهُ على الفَرْض المذكور. فإنَّه إذا كان التسليمُ عنده نَسْخًا فليزَم أنه كان ينسخُ صلاتَه بالتسليم في التشهد، مع أن اختلافَه لو كان، لكان في ركعات الوِتْر دون سائر الصلوات، فإنَّها متواترةٌ، فما لم يُفَصِّل مَاذَا كَانَ مَذْهَبُه؟ لا ينبغي التَّمَسُّك بحديثه. على أنه قد تبيَّن عندنا مَنْشَؤُه، وهو أن الرواية في النوافل ليست عنده إلا بالمَثْنَى، فَجَعَل الوِتْر أيضًا مَثْنَى وركعةً طردًا للباب، ولا يصِحُّ على طريقنا. وقد أوضحناه في تقرير الترمذي أبْسَط من هذا.

<<  <  ج: ص:  >  >>