فاختلفت فيه أنظار الأئمة، فقال الشافعيةُ: معنى قوله: «هو لك»، أي «هو أخوك» كما في رواية البخاريِّ في المغازي. وقال الحنفيةُ: معناه هو لك، أي مِلْكًا، لا أنه أخوك نَسَبًا، كما في «مسند أحمد»، والنَّسائي «ليس لك بأخٍ»، وصحَّحه الذهبيُّ في «الميزان» في ترجمة يوسف بن عدي. وذلك لأنهم اخْتَلَفُوا في ثبوت النَّسَبِ من السُّرِّيَّة، هل تُشْتَرَطُ له الدعوى أو لا.
فذهب الحنفيةُ إلى أن فِرَاشَهَا ضعيفٌ، فلا يَثْبُتُ النَّسَبُ منها إلا إذا ادَّعاه المَوْلَى. فإذا فعله صارت له أم ولد، وحينئذٍ لا يَحْتَاجُ إلى دعوةٍ لكونها فِرَاشًا متوسِّطًا إذ ذاك. أمَّا إذا كانت قِنَّة، ولم تَصِرْ أم الولد، فلا يَثْبُتُ النَّسَبُ منه بدون الدعوة.
وذهب الشافعيُّ إلى أنه لا حاجة إلى الدعوة بعد التحصين، وهو عنده: أن يَحْبِسَها في البيت، ولا يَدَعَها تتبرَّج تبرُّج الجاهلية. وراجع تفسيره عندنا من «مبسوط السَّرَخْسِي»، فإنه لم يحقِّقه غيره وحينئذٍ يَثْبُتُ نَسَبُه من غير دعوةٍ، لكون الظاهر كونه منه دون غيره، فَيَثْبُتُ عندهم النسب في الصورة المذكورة، ويكون قوله:«هو أخوك»، محمولا على ظاهره. أمَّا قوله:«ليس لك بأخ»، فهو عندهم معلولٌ، أعلَّه البيهقيُّ. وأمرُ الاحتجاب عندهم محمولٌ على الاحتياط.
والحاصل: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم مشى في حق عبد على القضاء، فَيَتَوَارَثُ منه. وعلى الدِّيانة في حقِّ سَوْدَة، فأمرها بالحجاب، وأمر كلاًّ منهما ما كان أَصْلَح لهما. وقال الحنفيةُ: إنه لم يُرِدْ بقوله: «وهو لكَ أخٌ» أخوة النسب، كيف وأنه قال لسَوْدَةَ:«احْتَجِبي منه»، مع أنها كانت بنت زَمْعَةَ أيضًا، وهل يُمْكِنُ أن يكون هذا الولد أخًا لعبد بن زَمْعَةَ، ثم لا يكون أخًا لسَوْدَةَ بنت زَمْعَة؟ وهل يُنَاسِبُ الأمر بالحِجَاب، بعد كونه أخًا في حقِّه خاصةً، فَيُؤْخَذُ به. أمَّا تَعَلُّلهم بالإِعلال، فلا يُسْمَعُ بعد تصحيح الذهبيِّ، وتأييد لفظ البخاريِّ:«احْتَجِبي»، فإنه في معنى قوله:«ليس لك بأخٍ».
والحاصلُ: أن نَسَبَهُ لم يَثْبُتْ عندنا من زَمْعَةَ، لكونها وَلِيدَةً له، ولا يَثْبُتُ النَّسَبُ منها بدون الدعوة، ولم تُوجَد. وكذا لم يَثْبُت من عُتْبَةَ، وإن ادَّعاه لكونه زانيًا، وللعاهر الحجر بنصِّ الحديث. وقال مولانا شيخ الهند: إن لفظَ الراوي أيضًا يَدُلُّ على أنه فَهِمَ عين ما فَهِمَهُ الحنفية، فإنه قال: ابن وَلِيدَة زَمْعَةَ، ولم يَقُلْ: ابن زَمْعَةَ، مع أن الظاهرَ ابن زَمْعَةَ، فنسبتهُ إلى أمِّهِ أوضحُ القرائن على أن نَسَبَهُ لم يَثْبُتْ من أبيه في ذهن الراوي أيضًا.
والحاصلُ: أن اللفظَ الواحدَ يُؤَيِّدُ الحنفية. والآخر الشافعية. ومرَّ عليه الشيخُ ابن الهُمَام في «التحرير»، وقال: لِمَ لا يجُوزُ أن تكونَ تلك الوليدة أم ولده؟ كما يُشْعِرُ به لفظ «الوليدة»، وهي مشتقةٌ من الولد، فهي حقيقةٌ في أم الولد، وإطلاقها في القنة توسُّعٌ، وحينئذٍ لا بأس بثبوت النَّسَبِ منه عندنا أيضًا.
قلتُ: ولكن يُشْكِلُ عليه لفظ: «ليس لك بأخ» فإنه صريحٌ في عدم ثبوت النسب المُسْتَلْزِم لعدم كونها أمَّ الولد. ولذا ترجمته في «الهندية»(باندى)، لا بأم الولد. قلتُ: وتَتَبَّعْتُ له تفسيرَ ابن جرير، فوجدت فيه: أن تلك الوَلِيدة كانت من بغايا مكة، فأين الشافعية، وأين ثبوت النَّسَبِ؟ فإنه يُبْنَى عندهم على التحصين، وإذا انعدم التحصين، انْعَدَمَ ما يُبْنَى عليه. وتكلَّم الشيخ