لا تتحرَّك إلَّا على ما يرضى به ربُّه. فإذا كانت غايةُ سمعِه وبصرِه وجوارحِه كلِّها هو اللهُ سبحانه، فحينئذٍ صَحَّ أن يقالَ: إنه لا يَسْمَعُ إلَّا له، ولا يتكلَّمُ إلَّا له، فكأنَّ اللَّهَ سبحانه صار سمعَه وبصرَه.
قلتُ: وهذا عدولٌ عن حقِّ الألفاظ، لأنَّ قولَه:«كنتُ سمعَه»، بصيغة المتكلِّم، يَدُلُّ على أنَّه لم يبق من المتقرِّب بالنوافل إلَّا جسدُه وشبحُه، وصار المتصرِّفُ فيه الحضرةَ الإِلهيةَ فحسب، وهو الذي عناه الصوفية بالفناء في الله، أي الانسلاخ عن داوي نفسه، حتى لا يكونَ المتصرِّفُ فيه إلَّا هو. وفي الحديث لمعةٌ إلى وَحْدَةِ الوجود. وكان مشايخُنا مولعين بتلك المسألة إلى زمن الشاه عبد العزيز. أمَّا أنا، فلستُ بمتشدِّدٍ فيها:
*وتبكيهم عيني، وهم في سوادِها، ... وتَشْتَاقُهم روحي، وهم بين أَضْلُعي
فائدةٌ: لا بأسَ أن نعودَ إلى مبحث التجلِّي، وإن ذكرناه مِرَارًا.
فاعلم أن التجلِّي ضروبٌ وأمثالٌ تقام وتُنْصَبُ بين الرب وعبده، لمعرفته تعالى. فتلك مخلوقةٌ، وهي التي تسمَّى برؤية الرب جلَّ مجده، وهذا كما في القرآن العزيز في قصة موسى عليه الصلاة والسلام:{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ}[النمل: ٨]، فالمرئي، والمَشَاهدُ لم يكن إلَّا النارَ، دون الرب جلَّ مجده، ولكنَّ اللَّهَ سبحانه لمَّا تجلَّى فيها قال:{يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ}[القصص: ٣٠]. وما رأيتُ لفظًا موهمًا في سائر القرآن أزيدَ من هذا، فانظر فيه أنه كيف سَمِعَ صوتًا من النار {إِنِّي أَنَا اللَّهُ}، فهو نارٌ. ثم صَحَّ قولُه:{إِنِّي أَنَا اللَّهُ} أيضًا. فالمتكلِّمُ في المرئي كان هو الشجرة، ثم أسند تكلُّمَها إلى الله تعالى، وذلك لأنَّ الربَّ جلَّ مجدُه لمَّا تجلَّى فيها، صارت الواسطةُ لمعرفته إيَّاه هي الشجرةُ، فأخذ المتجلَّى فيه حكمَ المتجلِّي بنفسه بنحو تجريدٍ. وهذا الذي قلنا فينا سبق: أنَّ المرئي في التجلِّي لا تكون إلَّا الصورَ، والمرمى يكون هو الذات. وإنَّما تجلَّى ربُّه في النَّار لحاجة موسى عليه الصلاة والسلام إليها، ولو كانت له حاجةٌ إلى غيرها لرآه في غيرها:
*فرآه نارًا، وهو نورٌ ... في الملوك، وفي العَسَس
*لو جاء يَطْلُبُ غيرَه ... لرآه فيه، وما انْتَكَس
فأمثالُ تلك الأحاديث عندي تَرْجِعُ إلى مسألة التجلِّي. فإن فَهِمْتَ معنى التجلِّي، كما هو حقُّه، وبلغت مَبْلَغَهُ، فدع الأمثالَ والصورَ المنصوبةَ، وارق إلى ربِّك حنيفًا. فإنَّه إذا صَحَّ للشجرة أن ينافي فيها: بـ {إِنِّي أَنَا اللَّهُ}، فما بالُ المتقرِّب بالنوافل أن لا يكونَ