للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

اللهُ سمعَه وبصرَه. كيف وأن ابن آدم الذي خُلِقَ على صورة الرحمن ليس بأَدْوَن من شجرة موسى عليه الصلاة والسلام (١).

قوله: (وَمَا تَرَدَّدْتُ (٢) عَنْ شَيْءٍ أنا فَاعِلُهُ) ... إلخ، لا ريبَ أن التردُّدَ في جَنَابه


(١) قلتُ: ولمَّا كان بحثُ التجلي يتعلَّق بالأمور الإِلهيةِ، كفَفْتُ فيه عِنَان القلم، حتَّى لا يَجْمَع بين رَطْبٍ ويابسٍ، واهتممتُ أن لا آتي فيه بألفاظٍ، إلَّا ما جاءت في الحديث. ومع ذلك فقد سَبَقَ مني ما ليس لي بحقٍّ. وها أنا أستغفرُ اللهَ العظيمَ، وأطْلُبُ غفرانَه لكلِّ ما فَرَطَ مني خطأً، أو عمدًا. وعليكَ أن تتأمَّلَ تلك المباحث بعين التحقيق، فإنَّها لا تَنْحُلُّ بالعلوم الظاهرةِ فقط ما لم تَرْجِعْ إلى كُتُبِ الصوفية، فإنَّ لكلِّ فنٍّ رجالًا، فلا تَعُدَّها تافهًا. وما كنتُ أريدُ أن أسوِّدَها مخافةَ الجلاء، ثم سَنَحَ لي أن أسمحَ بها، لعلَّه تكونُ من المائة راحلةٌ. ورُبَّ مُبلَّغَ أَوْعَى من سامع، وإن كلمةَ الحكمة ضالةُ الحكيم. فأَرْجُو من الحكيم أن يأخُذَ منِّي ضالَّتَه، ويَصِلَني بدعواتٍ صالحةٍ، تَلْحَقُني في حياتي، وبعد مماتي.
(٢) قلتُ: قال الحافظُ فضل الله التُّورِبِشتيّ في "شرح المصابيح"، من باب ذكر الله عزَّ وجلَّ، والتقرب إليه: إنَّ أهلَ العلم أوَّلوه على ترديد الأسباب والوسائط، منهم أبو سليمان الخطَّابيّ، وجعلوا قصةَ موسى عليه السلام مع مَلَكِ الموت إسنادًا لقولهم. وآزرَهُ بعضُهم بما جاء في الأثر من حديث إبراهيم، خليل الرحمن عليه السلام، والمَلَكِ الذي مُثل له صورةَ شيخٍ فانٍ، وفيه شهرةٌ عند أصحاب الأقاصيص. والذي قالوا هو الوجهُ، إلَّا أنَّه على هذا الوجه لا يَشْفِي غليلَ من لم يَرِدْ مواردَ المعاني المصبوبةِ في قوالب المتشابهات، فَيلتَبِسُ عليه القولُ المرويُّ عن صاحب الشريعة. من أمر اللهِ الذي لا سلطانَ للتشابه عليه، ولا مدخلَ للتردُّدَ فيه، بالأمر المرئيِّ عمَّن يأتيه الجهل بالندم والبَدَاء، ويَصْرف عن أنحائه اختلافَ الآراء. وإذ قد عرفنا أن قوله: "ما تردَّدتُ في شيءٍ أنا فاعلُه"، مرتَّبٌ عليه: "وهو يَكْرَهُ الموتَ، وأنا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ". وعرفنا من غير هذا الحديث: أن اللهَ تعالى يُرْفِقُ بعبدِه المؤمنِ، ويَلْطُفُ به عند الموت، حتَّى يُزِيلُ عنه كراهةَ الموت، وذلك في الحديث المتَّفَق على صحته عن عُبَادة بن الصَّامِت، وعائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا لَنَكرَهُ الموتَ، قال: ليس ذاك، ولكنَّ المؤمنَ إذا حَضَرَهُ الموتُ بُشِّرَ برضوان الله، وكرامتِه، فليس شيءٌ أحبَّ إليه مِمَّا أمامه". فَعَلِمْنَا أن المرادَ من لفظ "التردُّد" في هذا الحديث إزالةُ كراهةِ الموتِ عن العبدِ المؤمنِ، بلطائف يُحْدِثُهَا اللهُ له، ويُظْهِرُهَا حتَّى تَذْهبَ الكراهةُ التي في نفسه بما يتحققُ عنده من البشرى برضوان الله وكرامته. وهذه الحالةُ يتقدَّمَها أحوالٌ كثيرةٌ، من مرضٍ، وهرمٍ، وفاقةٍ، وزَمَانةٍ، وشدَّةِ بلاءٍ، يهوِّنُ على العبد مفارقةَ الدنيا، ويَقطَعُ عنها علاقتَه، حتَّى إذا أيِس عنها، تحقَّق رجاؤه بما عند الله، فاشتاقَ إلى دار الكرامة. فأخذُ المؤمنِ عمَّا تثبَّت به من حُبِّ الحياةَ شيئًا فشيئًا بالأسباب التي أشرنا إليها، يُضَاهي فعلَ المتردِّد من حيث الضَّعَةُ، فعبَّر عنه بالتردُّد.
ولمَّا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المُخْبِرُ عن الله، وعن صفاته، وعن أفعاله بأمورٍ غيرِ معهودةٍ، لا يَكَادُ السامعُ يَعْرِفُهَا على ما هي عليه، أُذِنَ له أن يُعَبِّرَ عنها بألفاظٍ مستعملةٍ في أمورٍ معهودةٍ، تعريفًا للأمة، وتوقيفًا لهم، بالمجاز عن الحقيقة، وتقريبًا لِمَا ينأى عن الأفهام، وتقريرًا لِمَا يَضِيقُ عن الإِفصاح به نطاق البيان، وذلك بعد أن عرَّفهم ما يَجُوزُ على الله، وما لا يَجُوزُ اهـ.
ولا بأسَ أن نأتيَكَ بكلام هذا الجِهبِذ في هذا الباب من موضع آخر، يُعِينُكَ في فَهْم هذا المعنى، ويوضِّح لك مزيدَ إيضاح، قال الحافظُ التُّورِبِشتِي في شرح حديث أنسٍ، رواه مسلم مرفوعًا: "للهِ أفرحُ بتوبة عبده ... " إلخ. إنا نقولُ هذا القولَ، وَأَمثالَه إذا أضِيفَ إلى الله سبحانه، وقد عُرِفَ أنَّه مِمَّا يَتَعَارَفه الناس في نعوت بني آدم، على ما تقدَّم في غير هذا الموضع. أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد بيانَ المعاني الغائبة، ولم يُطَاوِعْه فيه لفظٌ موضوعٌ لذلك، فله أن يأتيَ فيه بما يتَّضِحُ دونه المعنى المراد. =

<<  <  ج: ص:  >  >>