أحكامَهم تتعلق بعالم الشَّهادة وتلك الوصلة مِنْ عالم الغيب، وكذا الاستواء على العرش، والمعية، وقربه تعالى، كلها من باب واحد عندي، لا نُدْرِك كيفياتِها في غير أن نقول بتشبيه أو تجسيم كما يقوله الزائغون، فكما أَنَّ تلك الأشياء كلها على ظاهرها بدونِ تأويل عند الأئمة الأربعة، كذلك هذه المواجهة ووصلةِ المناجاة عندي.
والتحقيق عندي: أنَّها كلُّها تجليات من الله سبحانه وقد قلت فيه:
*رأيتُ بليلةٍ ظلماءَ نورًا ... على ألوانِ أطْوَارِ الخَلِيقَهْ
*تجلى في صفاتِ الكونِ شَتَى ... وتلك مله زجاجاتٍ رقيقَهْ
*كمِشكاة ترى المِصْبَاح فيها ... وذلك في زجاجاتٍ أنيقَهْ
*فَحَيَّز ناظري رُؤيَاه حتى ... عَبرَت مِنَ المجازِ إلى الحقيقَهْ
*عبارات ومعنىً ليس إلا ... وكلُّ الكون قد وسِعَت دَقِيقَهْ
وسيجيء البحث على معنى التَّجَلِّي بما يكفي ويشفي إنْ شاء الله تعالى.
ثم إنَّ تلك الوَصْلَة لمَّا كانت مِنْ عالمَ الغيب لا يكون قطعه إلا فيه، ولا يكون محسوسًا، وهو مَحْمَل حديث:«أَفْطَرَ الحاجمُ والمَحْجُوم»، عندي أعني به إفطار حقيقة الصَّوم بدونِ تأويلٍ في نظر الشَّرْعِ، وإِنْ لم يَكُن إفسادًا في نظر الفقيه. فمن احْتَجم فقد أَفْطَر في نظر الغيب وإنْ بقي صائمًا في نظر الفقيه لما مَرَّ مني من قَبْل، أَنَّ الطَّهارة وإِنْ لمْ تكن شَرِيطة في الصيام لكنَّه لا شَكَّ في كونِها مطلوبة، فإِذا انْتَقَضَت بخروج الدم وانتقصت، انتقض صومه وانتقص، فكان إفطارًا عند الشَّريعة في الجملة، وإِنْ زَعَم أَنَّه صائمٌ ولا سيما إذ كان الصيامُ تحصيلا للتَّقْوَى وتشبهًا بالملائِكة، فإِنَّهم يتنفرون عن الدِّماء في غايته، ولذا قالوا:{وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}[البقرة: ٣٠]. فذكروا من نقائِصه ما يُوجِب نقيصة في عالَمِهم وهو معنى قوله:«من أصبح جنبًا فلا صوم له». فإِنَّ الجنابَة قدحت في صَوْمِه وأدخلت فيه نقيصَة، والملائكة لا يدخلون بيتًا فيه جُنب.
وأمّا قول عائشة رضي الله عنها:«عدلتمونا بالكلب والحمار». فيبنى على عَدَمِ القَطْعِ الحسي كما هو نَظَرُ الفقيه، وقد مَرَّ مني غير مرة أَنَّ التَعارُضَ بين الأحاديث قد يكونُ قصديًا يعني به الاطلاع على مراتب الشيء، وقد يُرَادُ به التنبيه على اختلاف العوالِم والأَنْظَار، فَترِد عليك الأحاديث في قَطْعِ المرأة الصَّلاة، وترد عليك أَنَّ عائشةَ رضي الله عنها كانت تكون تعترض في قِبلَتِه اعتراض الجِنَازة وهو يُصلِّي، وكذلك يَرِد عليك أَنَّ مَنِ احتجَمَ فقد أَفْطَر، ويَرِد عليك أَنَّه احتجم وهو صائم، وهكذا يُروى لك «من أصبح جُنبًا فلا صوم له»، ويُنقل أنَّه أصبح صائمًا وهو جنب مِنْ غيرِ احتلام، وذلك لأنَّه قد عنى في بعض هذه الرِّوايات حكم هذه الأشياء في عالم الغيب، وفي بعض آخر حكمها في عالم الشَّهادة. وقد مَرَّ منا أَنَّه لا يجبُ توافق الحكم بين العالَمين.
ثم إِنَّ أحمد رضي الله عنه جزم بقَطْع الصَّلاةِ مِنَ الكلبِ الأسود، ووقع هذا القيد في