للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الحصةِ الأُخْرَى، فكانت باعتبار حِصَص الليل وساعاتِه من حيث تعجيلِ العشاء وتأخيره، فأخذها باعْتِبار أنواعِ الصَّلوات.

أما الآية الثالثة: فهي على شَكِلَةِ حديث جبريل عليه السَّلام وبدأ فيها مِنَ الظُّهْرِ، ولف الأربع في قوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ} وفَصَل منها الفجر وعدَّها مستقلة، وذلك لأنَّ أَوْقَات الأربع كانت مُسَلْسَلة مِنَ الدُّلُوك إلى الغرب بخلاف الفجر، لأنَّها في طَرَف، وبينهما وبين الظُّهْرِ وقتٌ مُهْمَلٌ جَعَلَهُ الله لِمَنْ فاتَتْهُ وظيفتهُ مِنَ الليلِ أن يؤديها فيه، فتحسب له كأنَّما قَرَأَها من الليل، وهو تأويلُ قوله تعالى: {وجعلنا الليل والنَّهار خِلْفَة لمن أرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أو أراد شكورًا} [الفرقان: ٦٢] والخلافة حيث يخلف ما في النَّهار عمَّا في الليل، وتَعرَّض في الآية الرَّابعةِ عن وَقْتِ الصبحِ والعصر أيضًا، بكون إحداهما قَبْلَ طُلُوعِ الشمس، وأُخْرى قَبْلَ غُرُوبِها تنبيهًا على وقتَيْهِمَا. وَذَكَرَ المَغْرِب والعِشَاء في قوله: {ءانَآء الَّيْلِ} على شاكلة {وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ}. بقيت الظُّهر فَجَعَلَها في أطرافِ النَّهار، والجمعية ههنا كجمعية الآناء والزلف هناك، باعتبارِ وقوعِ الظُّهْرِ تارةً في أوَّل وقتها، وأُخْرَى في غيره، فهي أيضًا باعتبارِ السَّاعات.

والحاصل: أنَّه حيث ثَنَّى الطَّرَف أَرَادَ به جَانِبيّ النَّهار وحيث ذَكَرَهُ بصيغةِ الجمع قَصَرَهُ على ساعاتِ الوقتِ، باعتبارِ وقوعِ الصَّلاةِ في أَجْزَائِها، لأنَّه لا يكونُ لشيء واحدٍ إلا طَرَفان، فلا تستقيمُ الجمعية إلا بأَخْذِها في الوقت. ولَعَلك عَلِمْتَ أَنَّ مِصْدَاق تلك الآياتِ واحدٌ، وإِنَّما تَفَنَّنَ فيها في العبارات لمعانٍ وَملاحِظ، عليك أَنْ تتأملَ فيها حتى تَذُوقَ حلاوتَها (١).


(١) قلتُ: وحاصلُ هذه الآيات، أَنَّه يجبُ على ابنِ آدم أَنْ يَعْمُرَ أوقاتَه بالتسبيح، والصلاة، وإِنْ كانت السماواتُ والأرضُ مملوءة بحمدِه، وكذلك يُسبِّحُ له من السماواتِ والأرضِ كيف لا، وهو خَليفَة الله في خَلِيقَتِه، فيجبُ عليه أَنْ يسبِّحهُ مساءً وصباحًا، وحين زوالِ الشمس وقَبْل الغروب، وهذه هي أُمهاتُ الأوقات، باعتبارِ تحولات الشمس، فَوَضع فيها التسبيحَ لربه الأكبر، ليَعْلَم أَنَّ مَنْ كان محطًا للتحولاتِ، مبتلى بأنواع التغيرات، مسخرًا بالأفول أثر الطلوع، والسجود عقيب الركوع، والاصفرار بعد اللموع، كيف يَصْلُح أَنْ يكون ربًا للهلوع المنوع، فليقل كما قال الله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: ٧٩] وإليه أشار في قوله: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}. فذكر دلوكها كأنّ أوقات الصّلاة منقسمة عليها، وهو كما في الكتب السالفة والدارمي من أوصاف هذه الأمة "يراقبون الشمس".
وإنَّما عَبَّر الصبح عن القرآن لبيان خصيصتِه فيه، وهو أَنْ الملائكةَ تشهدُها فيقتدون وَيستَمِعون، ولا يَقرَؤون، ولا يُنازعون، ولمَّا كان منَّا الإِسماع ومنهم الاستماع سُنَّ فيه طول القراءة، فإنَّهم ضيوفنا، نزلوا لاستماع القرآن العربي المبين، فليكرم الرجل ضَيْفَه ولا ينبغي إرجاعهم عِطَاشًا، ثم إذا أَمَر أنْ تُقَام الصَّلاة في طَرَفي النَّهار ناسبَ ذِكر الليل بما فيه، ولمَّا دَخَلَ الفَجْرُ في أحد طَرَفي النَّهار لم يَبقَ مِنَ الليل إلا الزُّلَف، وإنَّما عبَّرها بالزُّلَف دون الأَطرَاف لما فيها مِنْ معنى القُربة، ولو قال طَرَفي الليل لانقسم على النصفين، فإِنْ كان باعتبارِ العِشاءِ وصلاةِ الليل فليس بصحيح لصحةِ العشاء بعد النِّصف أيضًا على اختِلافِ الأَقْوال فيه، وإِنْ كان باعتبار العِشاء لكان دليلًا على جوازِها قُبيل الصُّبْحِ بدونِ كَرَاهةٍ. =

<<  <  ج: ص:  >  >>