والشيئين، فأمره بالصلاة معه فقط، فإِن أبى إلا أن يصلِّي مع قومه أيضًا، فعليه أن يخفِّف، وذلك لأن «إمَّا» و «أو» يقتضيان التَّقَابُل، ولا يستقيم التَّقَابُل بين الصلاة معه، والتخفيف عن قومه، بل الصحيح منه بين التخفيف والتطويل، أو الصلاة معه والصلاة معهم. وإنما اضْطَر الحافظ رحمه الله تعالى إلى هذا الشرح، لأنه أراد أن تكون إعادته في عِلْم النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لأنه نافعٌ له، وتعسَّر عليه قوله «إمَّا أن تصلِّي معي»، فجعل المقابلة بين الأمر والأمرين. فبناء هذا الشرح على أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يَعْلَمُ إعادته، فعلَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إمَّا أن يصلِّي معه فقط، أو يصلِّي على عادته في الموضعين، فحينئذٍ، يخفِّف عنهم.
قلتُ: وحمل الأحاديث على المذهب بحذفٍ وتقديرٍ ممَّا لا يَعْجَزُ عنه الفحول، وهذا يمكن من كل أحدٍ، ولكن الأَرْجَحَ ما تَبَادر إلى الذهن بدون تَسَاهُلٍ وتَمَحُّلٍ، ولذا رجَّح ابن تَيْمَيِة شرح الطَّحَاوِيِّ.
والشرح الثالث لأبي البركات ابن تَيْمَية وهذا نصُّه من «المنتقى» قال: لأنه يَدُلُّ على أنه متى صلّى معه امْتَنَعَتْ إمامته، وبالإجماع لا تَمْتَنِعُ بصلاة النفل معه، فعُلِمَ أنه أراد بهذا القول صلاة الفرض، وأن الذي كان يصلِّي معه كان ينويه نفلا اهـ. وحاصل هذا الشرح: أن مُعَاذًا كان يُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهو ظاهرٌ، فلا معنى لقوله:«إمَّا أن تُصَلِّي معي» فلا بُدَّ أن يُقَال إن صلاته في ذهن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لم تكن أصلية، بل كانت نافلة، فأمره أن يُصَلِّي معه، أي الصلاة الأصلية، وهي التي أُرِيدَ بها إسقاط الفريضة، أو يخفِّف عن قومه.
وبناء هذا الشرح على أن تكراره كان في علم النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ولكن ما قدَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من حاله هو أنه يُصَلِّي خلفه نافلةً، ومع قومه فريضةً، فعلَّمه أن لا يفعل كذلك فيما يأتي، بل إمّا أن يصلِّي معه الصلاة الأصلية وينوي بها إسقاط الفريضة، فلا يُصَلِّي مع قومه، وإمَّا أن يصلِّي معه كما كان يُصَلِّي بدون نية إسقاط الفريضة، وحينئذٍ فعليه أن يخفِّف عن قومه.
قلتُ: ولا أراكَ تريبُ في أن أُرَجِّحَ من الشروح ما اختاره الطَّحاوي.
بقي نظير الحافظ بعدم صحة المقابل على هذا التقدير، فأقول في جوابه إن المعادلةَ قائمةٌ ولطيفةٌ، وهي عندي على حدِّ قوله تعالى:{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ}[سبأ: ٨] فقابل بين الافتراء والجِنَّة، والذي يقتضيه سَوْقُ الكلام أن يكون هذا افترى على الله كَذِبًا أم لم يَفْتَرِ لأن المعادل صراحةً هو عدم الافتراء، ولكنه حذفه وأقام مقامه لازمه وهو الجنون، لأن الجنونَ لا افتراءَ له فهكذا نقول: إن أصل الكلام إمَّا أن تصلِّي معه، فاقتصر عليها، ولا تُصَلِّ بهم ثقيلةً أو خفيفةً، وإمَّا أن تُصَلِّي معهم، فعليك أن تخفِّف. وإنما حَذَفَ أن تصلِّي من المعطوف لأن المقصود من الصلاة معهم كان التخفيف، لا نفس الصلاة. فذكر الجزء المقصود ههنا، وحذف الصلاة معهم اختصارًا واعتمادًا على المعادل الآخر.
فأصل المعادلة بين الأربعة، حَذَفَ الاثنين منها، كما حَذْفَ من قوله تعالى:{حَتَّى يَطْهُرْنَ}[البقرة: ٢٢٢] فإذا تَطَهَّرْنَ على ما قررنا، فإن ما بعد الغاية لا يَلْتَئِمُ فيه ممَّا قبلها، والجواب كما مرَّ: أن أصل الكلام حتى يَطْهُرْنَ وَيَتَطَهَّرْنَ .. الخ. فإذا طهرن وتطهرن فَحَذَفَ أحد المعادلين