والذي يتبَّين من الروايات أن ما كان يصلِّيها مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم هي صلاة المغرب، ثم يَرْجِعُ إلى قومه فَيؤُمُّهم في العشاء. ثم إن مُعَاذًا رضي الله تعالى عنه لم يكن متفرِّدًا في ذلك، بل كان هذا دَأْبُ قومه، فكانوا يُصَلُّون المغرب مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم يَرْجِعُون ويصلُّون العشاء في ظلمةٍ من الليل. فقد أخرج الطَّحَاوِيُّ في باب القراءة في صلاة المغرب، عن الزُّهْرِيِّ، عن بعض بني سَلَمة:«أنهم كانوا يُصَلُّون مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم المغرب، ثم يَنْصَرِفُون إلى أهلهم وهم يُبْصِرُون موقع النَّبْلِ على قدر ثلثي ميل». اهـ وعن جابر بن عبد الله قال:«كنا نُصَلِّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم المغربَ، ثم نأتي بني سَلَمة وإنَّا لَنُبْصِر مواقع النَّبْل». اهـ. وعن عليِّ بن بلال قال:«صلَّيت مع نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأنصار، فحدَّثوني أنهم كانوا يُصَلُّون مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم المغرب ثم يَنْطَلِقُونَ يَرْتَمُونَ لا يَخْفَى عليهم موقع سهامهم، حتى يأتوا ديارهم، وهم في أقصى المدينة في بني سَلَمة». اهـ.
وبنو سَلَمة هؤلاء هم قوم مُعَاذ رضي الله تعالى عنه، وقد عَلِمْتَ من عادته ما كانت ثم إن قصة مُعَاذ رضي الله تعالى عنه يرويها جابر رضي الله تعالى عنه، وهو نفسه يروي ما كانت عادة قومه، فلا تكون عادة مُعَاذ رضي الله تعالى عنه خاصةً مع قطع النظر عن عادة قومه كائنةً ما كانت، فقد أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله:«أن مُعَاذ بن جبل كان يُصَلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم المغرب، ثم يَرْجِعُ إلى قومه فَيَؤُمُّهم». اهـ. قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
فدلَّ صراحةً على أن مُعَاذًا رضي الله تعالى عنه لم يكن يُصَلِّي العشاء مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بل التي كان يصلِّيها معه صلى الله عليه وسلّم هي المغرب، ثم كان يَرْجِعُ إلى قومه وهم بنو سلمة - فكان يَؤُمُّهم في العشاء، ومرَّ عليه البيهقي، ولمَّا لم يَتَنَبَّه على ما قلنا، علَّل ذكر المغرب زعمًا منه أن الصلاة التي كان يصلِّيها مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم هي العشاء، قلتُ: كلا، بل هو صحيحٌ، ولا مرد له ولا وجه لإعلاله بعد ما علمنا من عادة قومه أيضًا.
وإذا تبيَّنت وتيقَّنت أن أي صلاتي مُعَاذ كانت مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وأيها كانت مع قومه، عَلِمْتَ أنه لا تكرار ههنا، نعم اتَّفَقَ ذلك مرةً واحدةً فقط، حيث صلَّى مُعَاذ المغرب مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثم لم يَزَلْ جالسًا معه صلى الله عليه وسلّم حتى صلَّى العشاء، فأبطأ عليهم، ثم أمَّهم بنحو سورة البقرة، وبلغ خبره إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فنهى عنه.
فهنا أمران: الأول صلاته مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في المغرب ومع قومه في العشاء، وهذه كانت عادته المستمرة. والثاني تكرار العشاء، ولم يكن ذلك عادة له، وإنما وقع مرةً فقط، ثم أنكر عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم واختلط على عامتهم هذان الأمران، فكلما يذكر الرَّاوي الأمر الأول يحملونه على الثاني وهو الذي حَمَلَ البيهقيُّ على إعلال لفظ المغرب مع أنه صحيحٌ، وأنكر القاضي (١) أبو بكر بن العربي التكرار أيضًا كما مَّهدت القول فيه.
(١) ونصُّ القاضي هكذا: الثاني أن من المحتمل أن يكون النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي معه مُعَاذ رضي الله عنه صلاة النهار، وتفوته صلاة الليل، لأنهم كانوا أهل خدمة لا يَحْضُرُون صلاة النهار في منازلهم وقائلتهم، فأخبر الرَّاوي بحال مُعَاذ رضي الله عنه معًا في وقتين، لا في وقتٍ واحدٍ، وعن صلاتين لا عن صلاةٍ واحدةٍ. انتهى.