وكان مجني دونَ من كنتُ أتَقي ... ثلاثَ شُخُوص كاعبان ومعصر فانظر كيف فَصَل الثلاثَ، وحَلله إلى الاثنين والواحد، أي الكاعبين والمعصر. وهكذا فليضمه في صلاةِ الوِتر، فإن الراوي فصَله إلى الركعتين والركعة، لأن السياقَ كان في عدد المثنويات، فلما نزل الراوي إلى بيانِ الوِترِ فَصلَ مثناه أيضًا لبيانِ أن الإيتار في الوتر قام بالركعةِ الواحدةِ. ويؤيدُه ما وقع عند أحمد وأبي داود من روايةِ عبد الله بن أبي قيس عن عائشةَ رضي الله تعالى عنها بلفظ "كان يوتِر بأربع وثلاثٍ، وست، وثلاث، وثمانٍ وثلاث، وعَشر، وثلاث، ولم يكن يوتِر بأكثرَ مِن ثلاثَ عشرةَ ولا أنقَص مِن سَبع". قال الحافظ في "الفَتح". وهذا أصحُّ ما وَقَفت عليه من ذلك، وبه يجمع بين ما اختلف عن عائشة رضي الله تعالى عنها مِن ذلك والله اعلم. وعند أبي داود عن عروة عن عائشةَ رضي الله تعالى عنها: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ما بين أَن يَفرُغَ من العشاءِ إلى الفَجْرِ إحدى عشرةَ ركعة، يسلم من كل ركعتين". وجعله الحافِظ رحمه الله تعالى فَاصِلًا في الفصل بين ركعاتِ الوِترِ مع أنه محمول على غير الشفع الأخيرة لما مر في رواية أبي داود عنها. ولما في رواية ابن هشام عن عروةَ عنها: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل إحدى عشرةَ ركعة يوتِر فيها بواحدةٍ". الخ ففيها استثناء للشفع الأخيرةِ مع أنه قد مَر آنِفًا أن الرواةَ قد فَصلوا الركعاتِ في تلك الروايات إلى الركعتين والركعة. كتحليل العقلاء بسيطًا مَحضًا تحليلًا عقليًا، ولا يكون ذلك قادِحًا في بساطته مغيْرًا لحقيقته، وإنما يكون ملحظ تعبيرٍ فقط. وعلى هذا لا يَضر الفَرق بين قوله: "يُوتِره"، و"يوتر به" أيضًا. وظاهرٌ أن الوِترية إنما قامت في الحِس من الركعةِ الأخيرة لا غير وإِن كان مجموعُ الثلاثِ صلاة مستقلة عندنا، لكن لا حَجر في التعبير إن بناه الراوي على الحِسِّ والإحساس. وأما رواية هشام عن أبيه عنها: أنَّه كان يوتِر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء من الخمس ركعات إلا في آخِرِهن. رواه حمَّاد بن سَلَمة، وأبو عوانة، وَوهَيْب وغيرهم. فَقَد قَدَح فيه الزرقَاني نقلا عن ابن عبد البر حيث قال: وأكثر الحُفاظَ رَوَوه عن ابن هشام كما رواه مالك والرواية المخالفة له إنما حَدَّث بها عن هشام أَهلُ العراق. وما حَدَّث به هشامٌ قبل خروجه إلى العراق أَصحُّ عندهم اهـ. وإذا كان الأمر كذلك فقد كفينا عن عهدة الجواب على طريقِ ضابطةِ المحَدِّثين، وإلا فيمكن جوابه أيضًا من غيرِ تكلف، بأن المرادَ من الجلوس هو جلوس الفَراغ لا جلوس التشهدِ. وحاصله: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي صلاتَه من الليل في سلسلة واحدةٍ حتى إذا بقيت خمسٌ مع الوِتْر مَكَث هنيةً، ئُم إذا أراد أن يُصلي ركعاتِ الوِتْر قام وصلى ثلاثَ الوتر وركعتي التطوع بعدها بدون مُكْث بينهما، فإِذن المقصودُ منه بيانُ نفي الجلوس بين الوِتْر ورَكْعَتَيه كما كان في السابق لا نَفْيُ السلام كما زعم. ففيه بيانٌ لحال الوِتْر وركعتي التطوع لا حالِ صلاةِ الليل والوِتْر ومن ههنا عَلِمنا سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في هاتين الركعتين. فَمَن أرادَ أن يركَعَهما استُحب له أنْ لا يفصل بين وِتْره وبين هاتين بِمُكْث، بل يصليها في سلسلة واحدة. والحاصل: أَنَّ النفي فيه لجلوسِ الفراغ دون الجلوسِ مُطلقًا، لمَا مرَّ في الروايات المصدرة عنها. بقي أن المتبادر من الجلوس إلى جلوس في خلال الصلاةِ لا إلى جلوس الفراغ، فيكون حَمله عليه حَملًا على خلافِ المتبادر. فنقول: إن هذا التبادُر إنَّما هو بَعْدَ تَقَررِ العُرْف واشتهارُه عند الفقهاء. أما الحديث فإِنه يحمل على صرافة اللغة دون العُرف الحادث. فإِنَّ الحديثَ لا يقتصر على بيانِ الفِقْه، بل في غيرِ هذا الباب أيضًا كالسَّير وغيرِه. =