للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والتحاسد والانقياد لدواعي الشهوة والغضب وتعدّي ما حَدَّ له والتقصير عن كثير مما تعبد به، وسهّل ذلك عليها اغترارَها بموارد المعصية مع الإعراضِ عن مصادِرِها، وإيثارها ما تتعجله من يسير اللذة في دنياها على ما تتأجَّله من عظيم اللذة في أخراها، ونزولها على الحاضر المشاهد، وتجافيها عن الغائب الموعود، وذلك موجَبُ ما جُبلت عليه من جهلها وظلمها؛ فاقتضت أسماءُ الربِّ الحُسنى وصفاتُه العليا وحكمتُه البالغةُ ونعمتُه السابغةُ ورحمتُه الشاملةُ (١) وجودَه الواسع أن لا يضْرب عن عباده الذكر صفحًا، وأن لا يتركهم سُدى، ولا يُخفيهم ودواعي نفوسهم (٢) وطبائعهم، بل ركَّب في فطرهم وعقولهم معرفةَ الخير والشر والنافع والضار والألم واللذة (٣) ومعرفة أسبابها، ولم يكتف بمجرد ذلك حتى عَرَّفهم به مفصلًا على ألسنة رسله، وقطع معاذيرهم بأن أقام على صِدْقهم من الأدلة والبراهين ما لا يبقى معه لهم عليه حجة {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: ٤٢] وصرّف لهم طُرقَ الوَعْد والوعيد والترغيب والترهيب، وضربَ لهم الأمثالَ وأزال عنهم كُلَّ إشكال، ومكَّنهم من القيام بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه غاية التمكين، وأعانهم عليه بكل سبب، وسَلَّطهم على قهر طباعهم بما يجرُّهم إلى إيثار العواقب على المبادئ ورفض اليسير الفاني من اللذة إلى العظيم الباقي منها، وأرشدهم إلى التفكر والتدبُّر وإيثار ما تقضي به عقولهم وأخلاقهم من هذين الأمرين، وأكمل لهم دينَهم، وأتمَّ عليهم نعمته بما أوصله إليهم على ألسنة رسله من أسباب العقوبة والمثوبة والبشارة والنذارة والرغبة والرهبة، وتحقيق ذلك بالتعجيل لبعضه في دار المحنة ليكون عَلمًا وأمارةً لتحقيق ما أَخَّره عنهم في دار الجزاء والمثوبة، ويكون العاجل مذكرًا بالآجل، والقليل المُنقطع بالكثير المُتّصل، والحاضر الفائت مُؤذنًا بالغائب الدائم، فتبارك [اللَّه] (٤) رب العالمين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وسبحانه وتعالى عما يظنه به من لم يقْدُرْه حقَّ قدره ممن أنكر أسماءَه وصفاتِه وأَمْرَه ونهيه ووَعْدَه ووعيده، وظن به ظن السوء فأرداهُ ظنُّه فأصبح من الخاسرين.


(١) في (ن) و (ق): "ورحمته الواسعة".
(٢) في (د): "أنفسهم".
(٣) في (ق) و (ك): "والكدر"، وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة ما أثبتناه.
(٤) ما بين المعقوفتين سقط من نسخة (ط).

<<  <  ج: ص:  >  >>