للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأعراب، ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين، وأخبر أنه لا ينقصُهُم مع ذلك من ثواب طاعتهم للَّه ورسوله شيئًا، وقبل إسلام المنافقين ظاهرًا، وأخبر أنه (١) لا ينفعهم يوم القيامة شيئًا، وأنهم في الدَّرْكِ الأسفل من النار.

[الأحكام جارية على ما يُظْهر العباد]

فأحكام الرب تعالى جارية على ما يظهر العباد، ما لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه كما تقدم تفصيله، وأما قصة الملاعِنِ فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما قال بعد أن وَلَدت الغُلامَ على شبه الذي رُميت به: "لولا ما مضى من كتاب اللَّه لكان لي ولها شأن" (٢) فهذا -واللَّه أعلم- إنما أراد به لولا حكم اللَّه بينهما باللِّعان لكان شبه الولد بمن رُميت به يقتضي حكمًا آخر غيره، ولكن حكم اللَّه باللعان ألغى حكم هذا الشَّبَه، فإنهما دليلان وأحَدُهما أقوى من الآخر؛ فكان العمل به واجبًا، وهذا كما لو تعارض دليل الفِرَاش ودليل الشبه، فإنا نُعْمِلُ دليل الفراش، ولا نلتفت إلى الشبه بالنص (٣) والإجماع، فأين في هذا ما يبطل المقاصد والنيات والقرائن التي لا مُعارِض لها؟ وهل (٤) يلزم من بُطلان الحكم بقرينةٍ قد عارضها ما هو أقوى منها بطلانُ الحكم بجميع القرائن؟ وسيأتي دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وجمهور الأئمة على العمل بالقرائن واعتبارها في الأحكام.

وأما إنفاذه للحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب فليس في الممكن شرعًا غير هذا، وهذا شأن عامة المتداعيين، لا بد أن يكون أحدهم محقًا والآخر مبطلًا، وينفذ حكم اللَّه عليهما تارة بإثبات حق المحق وإبطال باطل المبطل، وتارة بغير ذلك إذا لم يكن مع المحق دليل.

وأما حديث رُكَانة لما طلَّق امرأته البتة وأحلفه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه إنما أراد واحدة (٥) فمِنْ أعظم الأدلة على صحة هذه القاعدة، وأن الاعتبار في العقود بنيات أصحابها ومقاصدهم وإنْ خَالَفت ظواهر ألفاظهم؛ فإن لفظ البتة يقتضي أنها قد بانت منه (٦) وانقطع التواصل الذي كان بينهما بالنكاح، وأنه لم يبق له عليها رجعة، بل بانت منه البتة كما يدل عليه لفظ البتة لغةً وعرفًا، ومع هذا فردَّهَا


(١) في (ك): "انهم".
(٢) سبق تخريجه.
(٣) يشير إلى ما ثبت في "الصحيحين" من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر".
(٤) في (ق): "ولا يلزم" وفي (ك): "يلزم" دون "وهل".
(٥) سبق تخريجه.
(٦) في (ن) و (ق): "بتت منه".

<<  <  ج: ص:  >  >>