للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بين العلماء، لا خلاف فيه، وإن وقع الخلاف في تحقيقه: هل وجد أم لا؟ قالوا: وعلى هذا فليس في عرفنا اليوم الحلف بصوم شهرين متتابعين، فلا تكاد تجد أحدًا يحلف به، فلا تسوغ الفتيا بإلزامه (١).

[يجب الأخذ بالعرف اعتبارًا وإسقاطًا]

قالوا: وعلى هذا أبدًا تجيء الفتاوى في طول الأيام، فمهما تجدد في العُرْف [شيء] فاعتبره، ومهما سقط فألْغِهِ، ولا تجمد على المنقول في الكتب طولَ عمرك، بل إذا جاءك رجلٌ من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِهِ على عُرْف بلدك، وسَلْه عن عرف بلده فأجْرِهِ عليه وأفْتِهِ به، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك، قالوا فهذا هو الحق الواضح، والجمودُ على المنقولات أبدًا ضلالٌ في الدين وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، قالوا: وعلى هذه القاعدةُ تخرَّج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريحُ كنايةً يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحًا تستغني عن النية، قالوا: وعلى هذه القاعدة فإذا قال: "أيمان البيعة تلزمني" خرج ما يلزمه على ذلك. وما جرتْ به العادةُ في الحلف عند الملوك المعاصرة إذا لم يكن له نيةٌ، فأي شيء جَرَتْ به عادةُ ملوك الوقت في التحليف به في بيعتهم واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عُرْفًا متبادرًا إلى الذهن من غير قرينة حُملت يمينه عليه، فإن لم يكن شيء من ذلك اعتبرت (٢) نيته أو بِسَاطُ يمينه، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه، انتهى (٣).

[[المفتي بمجرد المنقول دون اعتبار العرف ضال مضل]]

وهذا محض الفقه، ومَنْ أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرْفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعْظَمَ من جناية من طَبَّبَ الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطبِّ على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضَرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم واللَّه المستعان.


(١) "عقد الجواهر الثمينة" (١/ ٥١٧ - ٥١٨).
(٢) في (ك): "فإن لم يكن الأمر كذلك اعتبرت".
(٣) كلام القرافي، وانظر: "العرف والعادة" (١١٢) لأبي سنة، "العرف" (١/ ٦١ - ٦٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>