للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[من حكمة اللَّه شرع الحدود]

فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شَرَع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس [من] (١) بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقَتْل والجرح (٢) والقذت والسرقة؛ فأحْكم سبحانه وجوهَ الزّجرِ الرادعةِ عن هذه الجنايات غايةَ الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الرح والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه (٣) الجاني من الرح؛ فلم يشرع في الكذب قَطعَ اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السّرقةِ إعدام النفس. وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائِه وصفاتِه من حكمتِه ورحمتِه ولُطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقنع (٤) كلُّ إنسان بما آتاه مالكُه وخالقه؛ فلا يطمع في استلاب غير (٥) حقه.

[[تفاوتت الجنايات فتفاوتت العقوبات]]

ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك.

ومن المعلوم أن النظرةَ المحرَّمةَ لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب؛ ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم، فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بدٌّ من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وُكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسًا ووصفًا وقدرًا لذهبت بهم الآراءُ كُلَّ مَذْهَب، وتشعبت بهم الطُّرق كل شعب (٦)، ولعَظُمَ الخلاف (٧) واشتد الخَطْب، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنةَ ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديرَه نوعًا وقدرًا، ورتَب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها


(١) ما بين المعقوفتين سقط من (د) و (ك).
(٢) في (د): "والجراح".
(٣) في (ك) و (ق): "استحقه".
(٤) في المطبوع: "ويقتنع".
(٥) في (د): "وغيره".
(٦) في المطبوع و (ك): "مَشْعَب".
(٧) في المطبوع و (ن): "الاختلاف".

<<  <  ج: ص:  >  >>