للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فصل [من حكمة اللَّه اشتراط الحجة لإيقاع العقوبة]

وكان من تمام حكمته ورحمته أن لم يأخذ الجُناة بغير حُجَّة كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وجعل الحجة التي يأخذهم بها إما منهم وهي الإقرار أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال، وهو أبلغُ وأصدقُ من إقرار اللسان، فإن من قامت عليه شواهدُ الحال بالجناية كرائحةِ الخمر وقيْئها وحَبَل مَنْ لا زوجَ لها ولا سيّد ووجود المسروق في دار السارق وتحت ثيابه أولى بالعقوبة ممَّن قامت عليه شهادةُ إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب، وهذا متفق عليه بين الصحابة (١) وإن نازع فيه بعض الفقهاء، وإما أن تكون الحجة مِنْ خارج عنهم وهي البيِّنةُ، واشتُرط فيها العدالة وعدم التهمة؛ فلا أحسن في العقول والفطر في ذلك، ولو طُلب منها الاقتراح لم تقترح أحسن من ذلك ولا أوفق منه للمصلحة (٢).

[[السر في أن العقوبات لم يطرد جعلها من جنس الذنوب]]

فإن قيل: كيف تدَّعون أن هذه العقوبات لاصقةٌ بالعقول وموافقة للمصالح، وأنتم تعلمون أنه لا شيء بعد الكفر باللَّه أفظع، ولا أقبح من سفْك الدماء، فكيف تردعون عن سفك الدم بسفكه؟ وهل مثال ذلك إلا إزالة نجاسة بنجاسة؟ ثم لو كان ذلك مستحسنًا لكان أولى أن يُحرَّق ثوب من حَرَق (٣) ثوب غيره، وأن يُذبح حيوان من ذبح حيوان غيره، وأن يُخرَّب دار من خرب دار غيره، وأن يجوز لمن شَتمَ أن يشتم شاتمه، وما الفرق في صريح العقل بين هذا وبين قتل من قتل غيره أو قطع من قطعه؟ وإذا كان إراقة الدم الأقل (٤) مفسدة وقطع الطرف كذلك، فكيف زالت تلك المفسدة بإراقة الدم الثاني وقَطْع الطرف الثاني؟ وهل هذا إلا مضاعفة للمفسدة وتكثير لها؟ ولو كانت المفسدةُ الأولى تزولُ بهذه المفسدة


(١) مضى تخريج ذلك.
(٢) انظر: "الطرق الحكمية" (ص ١٦ - ٢١)، و"عدة الصابرين" (ص ٢٢٩ - ٢٣٠)، و"بدائع الفوائد" (٣/ ١١٧ - ١١٩، ١٥٢ - ١٥٦، ١٧٤ - ١٧٥)، و"زاد المعاد" (٢/ ٧٨، ٧٩، ١٤٣) للمؤلف -رحمه اللَّه-.
(٣) في (ق): "أن يخرق ثوب من خرق".
(٤) في المطبوع: "الدم الأول".

<<  <  ج: ص:  >  >>