للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَنْصِبُ التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنْكَر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السّنيات، فكيف [بمنصب التوقيع] (١) عن رب الأرض والسماوات؟.

فحقيقٌ بمن أقِيمَ في هذا المنصب أن يُعِدَّ له عُدَّته، وأن يتأهب له أهْبَتَه، وأن يعلم قَدْرَ المقام الذي أُقيمَ فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصَّدْع به؛ فإن اللَّه ناصرُه وهاديه، وكيف (٢) وهو المنصب الذي تولَّاه بنفسه ربُّ الأرباب؛ فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: ١٢٧]، وكفى بما تولاه اللَّه (تعالى- بنفسه) (٣) شرفًا وجلالةً؛ إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: ١٧٦]، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه (٤)، وليُوقِنْ أنه مسئول غدًا ومَوْقُوف بين يدي اللَّه.

فصل [أول من وَقَّع عن اللَّه هو الرسول أو منصبُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في التبليغ والإفتاء]

وأول من قام بهذا المنصب الشريف: سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخَاتَم النبيين، عبدُ اللَّه ورسوله، وأمينه على وَحْيه، وسفيره بينه وبين عباده؛ فكان يُفتي عن اللَّه بوَحْيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦)} [ص: ٨٦]. فكانت فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- جوامعَ الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتِّبَاعها، وتحكيمها، والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحدٍ من المسلمين العُدُولُ عنها ما وجَدَ إليها سبيلًا، وقد أمر اللَّه عباده بالرَّدِّ إليها (٥) حيث يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: ٥٩].

فصل [الأصحاب -رضي اللَّه عنهم- الذين قاموا بالفتوى بعده -صلى اللَّه عليه وسلم-]

ثم قام بالفتوى بَعْده بَرْكُ (٦) الإسلام، وعِصَابة الإيمان، وعَسْكر القرآن،


(١) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "بالتوقيع".
(٢) في (ق): "وكيف".
(٣) في (ق): "بنفسه تعالى".
(٤) في (ك): "فتياه".
(٥) في (ق): "وقد أمر اللَّه -تعالى- بالرد إليها".
(٦) "البرك" -بفتح الباء وسكون الراء- أصله صدر الإنسان، وجماعة الإبل، ويجوز أن =

<<  <  ج: ص:  >  >>