للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولو أن الناس كلهم تحيَّلوا لترك الحج والزكاة لبطلت فائدة هذين الفرضين العظيمين، وارتفع من الأرض حُكمهما بالكُليَّة، وقيل للناس: إن شئتم كُلُّكم أن تتحيلوا لإسقاطهما فافعلوا، فليتصور العبد ما في إسقاطهما من الفساد المضاد لشرع اللَّه وإحسانه وحكمته، وكذلك الحدود جعلها اللَّه تعالى زَواجَر للنفوس وعقوبة ونكالًا وتطهيرًا، فَشَرْعُهَا من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد، بل لا تتم سياسة مَلِك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم، ومعلوم ما في التحيل لإسقاطها من منافاة هذا الغرض وإبطاله وتسليط النفوس الشريرة على تلك الجنايات إذا علمت أن لها طريقًا إلى إبطال عقوباتها فيها، وأنها تسقط تلك العقوبات بأدنى الحيل؛ فإنه لا فرق عندها البتة بين أن تعلم أنه لا عقوبة عليها فيها وبين أن تعلم أن لها عقوبة وأن لها إسقاطها بأدنى الحيل، ولهذا احتاج البلد الذي تظهر فيه هذه الحيل إلى سياسة والٍ أو أمير يأخذ على يَدِ الجُناة ويكفّ شرهم عن الناس إذا لم يمكن أرباب الحيل أن يقوموا بذلك، وهذا بخلاف الأزمنة والأمكنة التي قام الناس فيها بحقائق ما بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإنهم لم يحتاجوا معها إلى سياسة أميرٍ ولا والٍ.

[[طرف مما كان عليه أهل المدينة]]

كما كان أهل المدينة في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فإنهم كانوا يحدّون بالرائحة وبالقَيْء وبالحبَل وبظهور المسروق عند السارق (١)، ويقتلون في القسامة، ويعاقبون أهل التهم، ولا يَقْبَلُون الدعوى التي تكذّبها العادة والعرف، ولا يرون الحيل في شيء من الدين ويعاقبون أربابها، ويحبسون (٢) في التهم حتى يتبين حال المتهم، فإن ظهرت براءته خلّوا سبيله، وإن ظهر فجورُه قرَّروه بالعقوبة اقتداء بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في عقوبة المتهمين وحبسهم؛ فإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حبس في تهمة وعاقب في تهمة، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى (٣) مِنْ ذِكْر ذلك عنه وعن أصحابه ما فيه شفاءٌ وكفاية وبيان لإغناء ما جاء به عن كل وال وسائس، وأن


= أقول: قد لا يحكم على الحديث بالوضع، لكن يبقى الحديث ضعيفًا كما قال العقيلي والدارقطني: لا يصح فيه شيء، ومرسل ابن سابط فيه ليث وهو ضعيف، وطرقه الباقية ضعيفة جدًا، ويظهر أن الصحيح فيه الوقف، واللَّه أعلم، وانظر: "التعقبات على الموضوعات" (رقم ١١٠ - بتحقيقي).
(١) مضى تخريج ذلك مسهبًا، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات.
(٢) في (ق): "ويحبسونهم".
(٣) وتخريجه هناك.

<<  <  ج: ص:  >  >>