للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: ٤٩ - ٥١]، شبَّههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن [بحُمر رأت الأسدَ أو الرماة] (١) فَفرَّت منه، وهذا من بديع القياس التمثيلي (٢)، فإن القوم في جهلهم بما بعث اللَّه به رسوله كالحُمُر، وهي لا تعقل شيئًا، فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور، وهذا غاية الذم لهؤلاء، فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها، وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة؛ فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضًا وحضه على النفور، فإن في (الاستفعال) من الطلب قدرًا زائدًا على الفعل المجرد، فكأنها تواصت بالنفور، وتواطأت عليه، ومن قرأها بفتَح الفاء (٣)، فالمعنى أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته.

فصل [مثل الذي حُمِّل الكتاب ولم يعمل به]

ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] (٤)} [الجمعة: ٥]؛ فقاس من حَمَّلَه [سبحانه] (٥) كتابَهُ ليؤمنَ به ويتَدَبَّره ويعملَ به ويدعُوَ إليه، ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظَهْر قلب، فقراءته بغير تدبر ولا تَفهُّم ولا اتباع له ولا تحكيم له (٦) وعمل بموجَبه، كحمارٍ على ظهره زَامِلَةُ أسفارٍ لا يدري ما فيها، وحَظُّه منها حملها على ظهره ليس إلا؛ فحظُّه من كتاب اللَّه كحظِّ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره؛ فهذا المثلُ وإنْ كان قد ضُرِبَ لليهود فهو مُتناوِل من حيث المعنى لمن حَمل القرآن فترك العَمَل به، ولم يؤدِّ حقه، ولم يَرْعَه حقَّ رعايته (٧).


(١) في (ق): "بالحمر إذا رأيت الأسد والرماة".
(٢) في المطبوع: "القياس والتمثيل" وفي (ق): "من باب القياس الئمثيلي".
(٣) "أي على صيغة اسم المفعول" (ط).
(٤) في (ق) بدلها: "الآية".
(٥) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(٦) في (ق): "وتحكيم له".
(٧) انظر تفسير ابن القيم لهذه الآيات في "اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص ١٦)، و"هداية الحيارى" (ص ٢٨٦ - ٢٨٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>