للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن قال: "لا أراه كذلك" كفانا مؤنة جوابه بإقراره على نفسه بمخالفةِ جميع طوائف بني آدم على اختلاف مللهم ونحلهم ودياناتهم وآرائهم، ولولا عقوبة الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضَهم بعضًا، وفسد نظامُ العَالَم، وصارت حال الدوابِّ والأنعام والوحوش أحسن من حال بني آدم.

وإن قال [قائل] (١): "بل لا تتم المصلحة إلا بذلك". قيل له: من المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتمُّ إلا بمُؤلمٍ يردعُهم ويجعل الجاني نكالًا وعظةً لمن يريد أن يفعل مثل فعله، وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة.

[[التسوية في العقوبات مع اختلاف الجرائم لا تليق بالحكمة]]

ومن المعلوم ببدائه العقول أن التسوية في العقوبات مع تفاوت الجرائم غير مستحسن، بل منافٍ للحكمة والمصلحة؛ فإنه إن ساوى بينهم في أدنى العقوبات لم تحصل مصلحة الزجر، وإن ساوى بينها في أعظمها كان خلاف الرحمة والحكمة؛ إذ لا يليق أن يُقتل بالنظرة والقُبْلة (٢) ويُقطع بسرقة الحبة والدينار، وكذلك التفاوت بين العقوبات مع استواء الجرائم قبيحٌ في الفِطرِ والعقول، وكلاهما تأباه حكمةُ الرب تعالى وعَدلُه وأحسانُه إلى خلقه، فأوقع العقوبةَ (٣) تارة بإتلاف النفس إذا انتهت الجناية في عظمها إلى غاية القبح كالجناية على النفس أو الدِّين أو الجناية التي ضَرَرها عام؛ فالمفسدة التي في هذه العقوبة خاصة، والمصلحة الحاصلة بها أضعاف أضعاف تلك المفسدة، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: ١٧٩].

[[حكمة القصاص]]

فلولا القصاص لفسد العَالَم، وأهلك (٤) الناسُ بعضَهَم بعضًا ابتداءً واستيفاءً، فكأن في القصاص دفعًا لمفسدة التجرِّي على الدماء بالجناية وبالاستيفاء، وقد قالت العرب في جَاهليَّتِها: "القتلُ أَنْفى للقتل"، وسفك الدماء يحقِنُ الدماء (٥)؛ فلم


(١) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك).
(٢) في (ق) و (ك): "والفعل".
(٣) في (ن): "العقوبات".
(٤) في (ن): "ولأهلك".
(٥) في المطبوع و (ق): "وبسفك الدماء تحقن الدماء".

<<  <  ج: ص:  >  >>