للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيها السرُّ الإعلانَ والظاهرُ الباطنَ والقصدُ اللفظ، بل سالك هذه الطريقة قد تكون عاقبته أسلم وخطره أقل من سالك تلك من وجوه كثيرة، كما أن سالك طريق الخداع والمكر عند الناس أمْقَتُ وفي قلوبهم أوْضَعُ وهم عنه أشد نَفْرة ممن أتى الأمر على وَجْهه ودخَلَه من بابه؛ ولهذا قال أيوب السختياني -وهو من كبار التابعين وساداتهم وأئمتهم- في هؤلاء: يُخادعون اللَّه كما يُخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل عليهم (١).

[فصل [الكلام على المكره]]

إذا عرف هذا فنقول: المكرَهُ (٢) قد أتى باللفظ المُقتضي للحكم، ولم يثبت عليه حكمه؛ لكونه غيرَ قاصدِ له، وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه، فانتفى الحكم لانتفاء قصده وإرادته لموجَب اللفظ؛ فعلم أن نفس اللفظ ليس مقتضيًا للحكم اقتضاء الفعل لأثره، فإنه لوَ قَتَل أو غَصَب أو أتْلَفَ أو نجَّس المائع مكرهًا لم يمكن أن يقال: إن ذلك القتل أو الإتلاف أو التنجيس فاسد وباطل، كما لو أكل أو شرب أو سكر لم يقل: إن ذلك فاسد، بخلاف ما لو حلف أو نذر أو طلق أو عقد عقدًا حكميًّا.

[[الموازنة بين المكره والمحتال]]

وهكذا المحتال الماكر المخادع؛ فإنه لم يقصد الحكم المقصود بذلك اللفظ الذي احتال به، وإنما قصد معنى آخر فقصد الربا بالبيع والتحليل بالنكاح والحنث بالخلع، بل المكره قد قَصَد دفع الظلم عن نفسه، وهذا قَصْدُه التوسل إلى غرض رديء؛ فالمحتال والمكره يشتركان في أنهما لم يقصدا بالسبب حكمه ولا باللفظ


(١) علقه البخاري في "صحيحه": (كتاب الحيل): باب ما ينهى من الخداع في البيوع (قبل رقم ٦٩٦٤) بلفظ: "يخادعون اللَّه كما يخادعون آدميًا، لو أتو الأمر عيانًا كان أهون علي" وكذا أورده ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص ٦٤) وعنده "صبيانًا" بدل "آدميًا".
ووصله وكيع في "مصنفه" ثنا سفيان بن عيينة عن أيوب به، أفاده ابن حجر في "الفتح" (١٢/ ٣٣٦) و"تغليق التعليق" (٥/ ٢٦٤).
(٢) انظر: "الإكراه وأثره في التصرفات الشرعية "لمحمد سعود المعيني، و"الإكراه في الشريعة الإسلامية" لفخري أبو صفية، وما علقناه على "الموافقات" (٣/ ١٢) للشاطبي.

<<  <  ج: ص:  >  >>