للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشافعي (١) - حاطب ليل إما أن يقع بيده عود أو أفعى تلدغه، وأما إذا بذل اجتهاده في معرفة الحق فإنه بين أمرين إما أن يظفر به فله أجران وإما أن يخطئه فله أجر (٢)، فهو مصيبٌ للأجر ولا بد، بخلاف المقلد المتعصب فإنه إن أصاب لم يُؤجر، وإن أخطأ لم يَسلمْ من الإثم، فأين صواب الأعمى من صواب البصير الباذل جهده؟.

الوجه الثالث: أنه إنما يكون أقرب إلى الصواب إذا عرف أن الصواب مع من قلده دون غيره، وحينئذ فلا يكون مقفدًا له، بل متبعًا للحجة، وأما إذا لم يعرف ذلك ألبتَّة فمن أين لكم أنه أقرب إلى الصواب من باذلِ جهده ومستفرغ وُسعه في طلب الحق؟

الوجه الرابع: أن الأقرب إلى الصواب عند تنازع العلماء مَنْ امتثل أمر اللَّه فردّ ما تنازعوا فيه إلى القرآن والسنة، وأما من رد ما تنازعوا فيه إلى قول متبوعه دون غيره فكيف يكون أقرب إلى الصواب.

الوجه الخامس: أن المثال الذي مثلتم به من أكبر الحجج عليكم؛ فإن من أراد شراءَ سلعةٍ أو سلوكِ طريقٍ حين اختلف عليه اثنان أو أكثر، وكلٌّ منهم يأمره بخلاف ما يأمره به الآخر، فإنه لا يقدم على تقليد واحدٍ منهم، بل يبقى مترددًا طالبًا للصواب من أقوالهم؛ فلو أقْدم على قبول قول أحدهم مع مساواة الآخر له في المعرفة والنصيحة والديانة أو كونه فوقه في ذلك عُدَّ مخاطرًا مذمومًا ولم يُمدح إن أصاب، وقد جعل اللَّه في فِطر العقلاء في مثل هذا أن يتوقَف أحدُهم ويطلب ترجيح قول المُخْتَلفين عليه من خارج حتى يستبينَ (٣) له الصواب، ولم يجعل في فِطرهم الهجْمَ على قبول قول واحد واطِّراح قول من عداه.

الوجه السابع (٤) والسبعون: أن نقول لطائفة المقلِّدين: هل تسوِّغون تقليد كل عالم من السلف والخلف أو تقليد بعضهم دون بعض؟ فإن سوَّغتم تقليد الجميع


(١) سبق تخريج ذلك عنه.
(٢) لما أخرج البخاري في "الصحيح" (كتاب الاعتصام): باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب، أو أخطأ (١٣/ ٣١٨/ رقم ٧٣٥٢)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الأقضية): باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (١٣/ ١٣٤٢/ رقم ١٧١٦) عن أبي هريرة مرفوعًا: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران، فإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ؛ فله أجر.
(٣) في (ك): "يتبين".
(٤) في (ق) و (ك): "السادس".

<<  <  ج: ص:  >  >>